( 1 )
nindex.php?page=treesubj&link=3131مصارف الصدقات قسمان : أشخاص ومصالح : علم مما تقدم أن مصارف الصدقات في الآية قسمان ( أحدهما ) أصناف من الناس يملكونها تمليكا بالوصف المقتضي للتمليك ، وعبر عنه بلام الملك . ( وثانيهما ) مصالح عامة اجتماعية ودولية لا يقصد بها أشخاص يملكونها بصفة قائمة فيهم وعبر عنه بـ " في " الظرفية وهو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60وفي الرقاب وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60وفي سبيل الله والأول الفقراء والمساكين يستحقونها بفقرهم ما داموا فقراء - والعاملون عليها يستحقونها بعملهم وإن كانوا أغنياء ، والمؤلفة قلوبهم يستحقها منهم من ثبت عند أولي الأمر الحاجة إلى تأليفه ، والغارمون بقدر ما يخرجهم من غرمهم ، وابن السبيل بقدر ما يساعده على العود إلى أهله وماله ، وهذا في معنى الفقير ، ولكن قد يكون فقره عارضا بسبب السياحة والقسم الثاني : فك الرقاب وتحريرها ، وهي مصلحة عامة في الإسلام ، وليس فيها تمليك لأشخاص معينين بوصف فيها - وفي سبيل الله وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة ، وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح ، وأغذية الجند ، وأدوات لنقل وتجهيز الغزاة ، وتقدم مثله عن
محمد بن عبد الحكم ، ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك ؛ لأنه لا يملكه دائما بصفة الغزو التي قامت به ، بل يستعمله في سبيل الله ، ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله ، بخلاف الفقير والعامل عليها والغارم والمؤلف وابن السبيل فإنهم لا يردون ما أخذوا بعد فقد الصفة التي أخذوه بها ، ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية ، وكذا الخيرية العامة ، وإشراع الطرق وتعبيدها ، ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية ، ومنها بناء البوارج المدرعة والمناطيد والطيارات الحربية والحصون والخنادق .
ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام ، وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي كما يفعله الكفار في نشر دينهم ، وقد
[ ص: 437 ] بينا تفصيل هذه المصلحة العظيمة في تفسير قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ( 3 : 104 ) الآية . ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرهم مما تقوم به المصلحة العامة ، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ، ولا يعطى عالم غني لأجل علمه ، وإن كان يفيد الناس به .
nindex.php?page=treesubj&link=3131_3247والترتيب في هذه الأصناف لبيان الأحق فالأحق للصدقات ، على القاعدة الغالبة عند فصحاء العرب في تقديم الأهم فالأهم على ما دونه في الموضوع ، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب في معطوفاتها ، فالفقراء والمساكين أحق من غيرهم بهذه الصدقات ؛ لأنهم المقصودون بها أولا وبالذات ، بدليل الحديث المتقدم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920354تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " ويليهم العاملون عليها ؛ لأنهم هم الذين يقومون بجمعها وحفظها ، وقال بعض الفقهاء : إنهم أول من يعطى عملته منها إلا إذا كان لهم رواتب من بيت المال أو رأى ولي الأمر إعطاءهم عمالتهم منه ، ويليهم المؤلفة قلوبهم عند الحاجة إليهم ، وهم يعطون من الغنائم أيضا ، فالحاجة إليهم عارضة لا كالعاملين على الصدقات ، ويليهم مصلحة فك الرقاب والعتق وهي المصالح من الاجتماعية الكمالية لا الضرورية ، فإن تأخيرها لا يرهق معوزا كالفقير ، ولا يضيع مصلحة تشتد الحاجة إليها كتأليف القلوب ، ويليها مساعدة الغارم على الخروج من غرمه ، فهو دون مساعدة الرقيق على الخروج من رقه ، ويليهم المصلحة العامة المعبر عنها بسبيل الله ، فهي من قبيل العام الذي يراد به ما وراء ذلك الخاص مما قبلها الذي تكثر الحاجة إليه ، وأما ابن السبيل فهو دون جميع ما قبله لندرة وجوده .
ولولا إرادة الترتيب لذكر المستحقون من الأفراد بأوصافهم التي اشتقت منها ألقابهم نسقا ( وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل ) ثم ذكرت بعدهم المصالح التي أدخل عليها " في " وهي الرقاب وسبيل الله .
وليس المراد من هذا الترتيب أن كل صنف يحجب ما دونه حجب حرمان أو نقصان كترتيب الوارثين ، وإنما يظهر اعتباره في حال قلة المال ، فالمتجه حينئذ أنه يقدم فيه الأهم وهو الفقراء والمساكين ، ولكن بعد سهم العاملين عليها إن كانوا هم الذين جمعوها ، ولم ير الإمام إعطاءهم عمالتهم من بيت المال ، وسيأتي ذكر خلاف العلماء في قسمتها في المسألة الثالثة من هذه المباحث .
هذا ما نفهمه من الآية عند قراءتها ، ولكننا بعد أن كتبنا ما فهمناه ، راجعنا الكشاف الذي
[ ص: 438 ] يعنى بهذه النكت الدقيقة ، فرأينا له رأيا آخر في نكتة اختلاف التعبير من حيث تقسيم الأصناف إلى القسمين يخالف رأينا من بعض الوجوه قال : ( فإن قلت ) لم عدل عن " اللام " إلى " في " في الأربعة الأخيرة ؟ ( قلت ) للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن " في " للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ومصبا . وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق والأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم ، من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير ، أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال . وتكرير " في " في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60وفي سبيل الله وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين اهـ .
وقد ذكر
أحمد بن المنير في ( الانتصاف ) نكتة أخرى هي أقرب إلى ما قلناه قال :
وثم سر آخر هو أظهر وأقرب ، ذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكا ، فكان دخول " اللام " لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ولكن في مصالح تتعلق بهم ، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به . وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم . وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك ، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا ، وعطفه على المجرور باللام ممكن ، ولكن على القريب منه أقرب والله أعلم ، وكان جدي
أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال
لمالك على أن الغرض بيان المصرف ، " واللام لذلك لام الملك ، فيقول متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف فيتعين تقديره ، فأما أن يكون التقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء كقول
مالك ، أو مملوكة للفقراء كقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، لكن الأول متعين ؛ لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعا يصح تعلق اللام به وفي معا فيصح أن تقول : هذا الشيء مصروف في كذا ، ولكذا بخلاف تقديره مملوكة ، فإنه لا يلتئم مع اللام وعند الانتهاء إلى " في " يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها ، فتقديره من اللام عام التعلق شامل الصحة متعين ، والله الموفق اهـ .
وما قاله
ابن المنير يوافق في الجملة ، إلا أنه جعل سهم الغارمين من المصالح وهو محتمل ، وما قلناه فيهم أظهر ؛ لأنه لا يشترط أن يعطى كل ما يأخذونه لأرباب ديونهم
[ ص: 439 ] ولا سيما الغارمين لإصلاح ذات البين فما يعطونه مساعدة على ما يعطون غيرهم أو تعويض عما أعطوا ، وأجاز الوجهين في ابن السبيل ، وضعفه ظاهر فهو ممن يملكون سهمهم .
( 1 )
nindex.php?page=treesubj&link=3131مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ قِسْمَانِ : أَشْخَاصٌ وَمَصَالِحُ : عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ قِسْمَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَصْنَافٌ مِنَ النَّاسِ يَمْلِكُونَهَا تَمْلِيكًا بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلتَّمْلِيكِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَامِ الْمِلْكِ . ( وَثَانِيهِمَا ) مَصَالِحُ عَامَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَدَوْلِيَّةٌ لَا يُقْصَدُ بِهَا أَشْخَاصٌ يَمْلِكُونَهَا بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ فِيهِمْ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِـ " فِي " الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60وَفِي الرِّقَابِ وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَوَّلُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَسْتَحِقُّونَهَا بِفَقْرِهِمْ مَا دَامُوا فُقَرَاءَ - وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِعَمَلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ الْحَاجَةُ إِلَى تَأْلِيفِهِ ، وَالْغَارِمُونَ بِقَدْرِ مَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ غُرْمِهِمْ ، وَابْنُ السَّبِيلِ بِقَدْرِ مَا يُسَاعِدُهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْفَقِيرِ ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فَقْرُهُ عَارِضًا بِسَبَبِ السِّيَاحَةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي : فَكُّ الرِّقَابِ وَتَحْرِيرُهَا ، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ فِيهَا تَمْلِيكٌ لِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ بِوَصْفٍ فِيهَا - وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَشْمَلُ سَائِرَ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ ، وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا بِالتَّقْدِيمِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْحَرْبِ بِشِرَاءِ السِّلَاحِ ، وَأَغْذِيَةِ الْجُنْدِ ، وَأَدَوَاتٍ لِنَقْلِ وَتَجْهِيزِ الْغُزَاةِ ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُجَهَّزُ بِهِ الْغَازِيَ يَعُودُ بَعْدَ الْحَرْبِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَبْقَى كَالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ دَائِمًا بِصِفَةِ الْغَزْوِ الَّتِي قَامَتْ بِهِ ، بَلْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَيَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بِخِلَافِ الْفَقِيرِ وَالْعَامِلِ عَلَيْهَا وَالْغَارِمِ وَالْمُؤَلَّفِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ مَا أَخَذُوا بَعْدَ فَقْدِ الصِّفَةِ الَّتِي أَخَذُوهُ بِهَا ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ إِنْشَاءُ الْمُسْتَشْفَيَاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ ، وَكَذَا الْخَيْرِيَّةُ الْعَامَّةُ ، وَإِشْرَاعُ الطُّرُقِ وَتَعْبِيدُهَا ، وَمَدُّ الْخُطُوطِ الْحَدِيدِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا التِّجَارِيَّةِ ، وَمِنْهَا بِنَاءُ الْبَوَارِجِ الْمُدَرَّعَةِ وَالْمَنَاطِيدِ وَالطَّيَّارَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ .
وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي زَمَانِنَا هَذَا إِعْدَادُ الدُّعَاةِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِرْسَالُهُمْ إِلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ مِنْ قِبَلِ جَمْعِيَّاتٍ مُنَظَّمَةٍ تَمُدُّهُمْ بِالْمَالِ الْكَافِي كَمَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ فِي نَشْرِ دِينِهِمْ ، وَقَدْ
[ ص: 437 ] بَيَّنَّا تَفْصِيلَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ( 3 : 104 ) الْآيَةَ . وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّفَقَةُ عَلَى الْمَدَارِسِ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْطَى مِنْهَا مُعَلِّمُو هَذِهِ الْمَدَارِسِ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ وَظَائِفَهُمُ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي يَنْقَطِعُونَ بِهَا عَنْ كَسْبٍ آخَرَ ، وَلَا يُعْطَى عَالِمٌ غَنِيٌّ لِأَجْلِ عِلْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ النَّاسَ بِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=3131_3247وَالتَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْأَحَقِّ فَالْأَحَقِّ لِلصَّدَقَاتِ ، عَلَى الْقَاعِدَةِ الْغَالِبَةِ عِنْدَ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الْمَوْضُوعِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فِي مَعْطُوفَاتِهَا ، فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَذِهِ الصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ، بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920354تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ " وَيَلِيهِمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : إِنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ يُعْطَى عُمْلَتَهُ مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ رَوَاتِبُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ إِعْطَاءَهُمْ عُمَالَتَهُمْ مِنْهُ ، وَيَلِيهِمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ ، وَهُمْ يُعْطَوْنَ مِنَ الْغَنَائِمِ أَيْضًا ، فَالْحَاجَةُ إِلَيْهِمْ عَارِضَةٌ لَا كَالْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ ، وَيَلِيهِمْ مَصْلَحَةُ فَكِّ الرِّقَابِ وَالْعِتْقِ وَهِيَ الْمَصَالِحُ مِنَ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكَمَالِيَّةِ لَا الضَّرُورِيَّةِ ، فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا لَا يُرْهِقُ مَعُوزًا كَالْفَقِيرِ ، وَلَا يُضَيِّعُ مَصْلَحَةً تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا كَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ ، وَيَلِيهَا مُسَاعَدَةُ الْغَارِمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ غُرْمِهِ ، فَهُوَ دُونَ مُسَاعَدَةِ الرَّقِيقِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ رِقِّهِ ، وَيَلِيهِمُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِسَبِيلِ اللَّهِ ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَاصِّ مِمَّا قَبْلَهَا الَّذِي تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ دُونَ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ لِنُدْرَةِ وُجُودِهِ .
وَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّرْتِيبِ لَذُكِرَ الْمُسْتَحِقُّونَ مِنَ الْأَفْرَادِ بِأَوْصَافِهِمُ الَّتِي اشْتُقَّتْ مِنْهَا أَلْقَابُهُمْ نَسَقًا ( وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمُونَ وَابْنُ السَّبِيلِ ) ثُمَّ ذُكِرَتْ بَعْدَهُمُ الْمَصَالِحُ الَّتِي أُدْخِلَ عَلَيْهَا " فِي " وَهِيَ الرِّقَابُ وَسَبِيلُ اللَّهِ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ يَحْجُبُ مَا دُونَهُ حَجْبَ حِرْمَانٍ أَوْ نُقْصَانٍ كَتَرْتِيبِ الْوَارِثِينَ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ اعْتِبَارُهُ فِي حَالِ قِلَّةِ الْمَالِ ، فَالْمُتَّجَهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَهَمُّ وَهُوَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ ، وَلَكِنْ بَعْدَ سَهْمِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا إِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوهَا ، وَلَمْ يَرَ الْإِمَامُ إِعْطَاءَهُمْ عُمَالَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قِسْمَتِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ .
هَذَا مَا نَفْهُمُهُ مِنَ الْآيَةِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا ، وَلَكِنَّنَا بَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا مَا فَهِمْنَاهُ ، رَاجَعْنَا الْكَشَّافَ الَّذِي
[ ص: 438 ] يُعْنَى بِهَذِهِ النُّكَتِ الدَّقِيقَةِ ، فَرَأَيْنَا لَهُ رَأْيًا آخَرَ فِي نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمِ الْأَصْنَافِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ يُخَالِفُ رَأْيَنَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ قَالَ : ( فَإِنْ قُلْتَ ) لِمَ عَدَلَ عَنِ " اللَّامِ " إِلَى " فِي " فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ ؟ ( قُلْتُ ) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ ، لِأَنَّ " فِي " لِلْوِعَاءِ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوضَعَ فِيهِمُ الصَّدَقَاتُ ، وَيُجْعَلُوا مَظِنَّةً لَهَا وَمَصَبًّا . وَذَلِكَ لِمَا فِي فَكِّ الرِّقَابِ مِنَ الْكِتَابَةِ أَوِ الرِّقِّ وَالْأَسْرِ ، وَفِي فَكِّ الْغَارِمِينَ مِنَ الْغُرْمِ ، مِنَ التَّخْلِيصِ وَالْإِنْقَاذِ ، وَلِجَمْعِ الْغَازِي الْفَقِيرِ ، أَوِ الْمُنْقَطِعِ فِي الْحَجِّ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ ، وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ جَامِعٌ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ . وَتَكْرِيرُ " فِي " فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فِيهِ فَضْلُ تَرْجِيحٍ لِهَذَيْنِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ اهـ .
وَقَدْ ذَكَرَ
أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي ( الِانْتِصَافِ ) نُكْتَةً أُخْرَى هِيَ أَقْرَبُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ قَالَ :
وَثَمَّ سِرٌّ آخَرُ هُوَ أَظْهَرُ وَأَقْرَبُ ، ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْأَوَائِلَ مُلَّاكٌ لِمَا عَسَاهُ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ مِلْكًا ، فَكَانَ دُخُولُ " اللَّامِ " لَائِقًا بِهِمْ ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْأَوَاخِرُ فَلَا يَمْلِكُونَ مَا يُصْرَفُ نَحْوَهُمْ ، بَلْ وَلَا يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ وَلَكِنْ فِي مَصَالِحَ تَتَعَلَّقُ بِهِمْ ، فَالْمَالُ الَّذِي يُصْرَفُ فِي الرِّقَابِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ السَّادَةُ الْمُكَاتِبُونَ وَالْبَائِعُونَ ، فَلَيْسَ نَصِيبُهُمْ مَصْرُوفًا إِلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِاللَّامِ الْمُشْعِرَةِ بِتَمَلُّكِهِمْ لِمَا يُصْرَفُ نَحْوَهُمْ ، وَإِنَّمَا هُمْ مَحَالٌّ لِهَذَا الصَّرْفِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ . وَكَذَلِكَ الْغَارِمُونَ إِنَّمَا يُصْرَفُ نَصِيبُهُمْ لِأَرْبَابِ دُيُونِهِمْ تَخْلِيصًا لِذِمَمِهِمْ لَا لَهُمْ . وَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ فَوَاضِحٌ فِيهِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَكَأَنَّهُ كَانَ مُنْدَرِجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ مُجَرَّدٌ مِنَ الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا ، وَعَطْفُهُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ مُمْكِنٌ ، وَلَكِنْ عَلَى الْقَرِيبِ مِنْهُ أَقْرَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَكَانَ جَدِّي
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ الْفَقِيهُ الْوَزِيرُ اسْتَنْبَطَ مِنْ تَغَايُرِ الْحَرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَجْهًا فِي الِاسْتِدْلَالِ
لِمَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ الْمَصْرَفِ ، " وَاللَّامُ لِذَلِكَ لَامُ الْمِلْكِ ، فَيَقُولُ مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ الْوَاقِعِ خَبَرًا عَنِ الصَّدَقَاتِ مَحْذُوفٌ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُهُ ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ مَصْرُوفَةٌ لِلْفُقَرَاءِ كَقَوْلِ
مَالِكٍ ، أَوْ مَمْلُوكَةٌ لِلْفُقَرَاءِ كَقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَيَّنٌ ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ يُكْتَفَى بِهِ فِي الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا يَصِحُّ تَعَلُّقُ اللَّامِ بِهِ وَفِي مَعًا فَيَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : هَذَا الشَّيْءُ مَصْرُوفٌ فِي كَذَا ، وَلِكَذَا بِخِلَافِ تَقْدِيرِهِ مَمْلُوكةٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ اللَّامِ وَعِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى " فِي " يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَصْرُوفَةٌ لِيَلْتَئِمَ بِهَا ، فَتَقْدِيرُهُ مِنَ اللَّامِ عَامُّ التَّعَلُّقِ شَامِلُ الصِّحَّةِ مُتَعَيَّنٌ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ اهـ .
وَمَا قَالَهُ
ابْنُ الْمُنِيرِ يُوَافِقُ فِي الْجُمْلَةِ ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ سَهْمَ الْغَارِمِينَ مِنَ الْمَصَالِحِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَمَا قُلْنَاهُ فِيهِمْ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطَى كُلُّ مَا يَأْخُذُونَهُ لِأَرْبَابِ دُيُونِهِمْ
[ ص: 439 ] وَلَا سِيَّمَا الْغَارِمِينَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَمَا يُعْطَوْنَهُ مُسَاعَدَةٌ عَلَى مَا يُعْطُونَ غَيْرَهُمْ أَوْ تَعْوِيضٌ عَمَّا أَعْطَوْا ، وَأَجَازَ الْوَجْهَيْنِ فِي ابْنِ السَّبِيلِ ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْلِكُونَ سَهْمَهُمْ .