مسألة : القول في  دخول الجنب المسجد   
قال  الشافعي   ، رضي الله عنه : " ولا بأس أن يمر الجنب في المسجد مارا ، ولا يقيم فيه ، وتأول قول الله سبحانه  ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا   قال : وذلك عندي موضع الصلاة " .  
قال  الماوردي      : وهذا كما قال .  
الجنب ممنوع من المقام في المسجد ، ويجوز له الاجتياز فيه مارا ، وبه قال من الصحابة  جابر   ، ومن التابعين  ابن المسيب   ،  والحسن   ، ومن الفقهاء  مالك      .  
وقال  أبو حنيفة      : لا يجوز للجنب دخول المسجد لا مقيما ، ولا مارا تعلقا برواية  عائشة  ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  لا أحل المسجد لا لجنب ، ولا لحائض  قال : ولأن كل من لا يجوز له اللبث في المسجد لا يجوز له الاجتياز فيه كالحائض ، ومن على رجله نجاسة ، ولأنه جنب حل مسجدا فوجب أن يمنع منه .  
ودليلنا قوله تعالى  يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا      [ ص: 266 ] ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا      [ النساء : 43 ] . يعني : بالصلاة موضع الصلاة ، لأنه يسمى صلاة . قال الله تعالى :  لهدمت صوامع وبيع وصلوات      [ الحج : 40 ] . والصلاة لا تهدم وإنما يهدم مكانها ، وإن كان الاسم واقعا عليه كان النهي مصروفا إليه بدليل قوله سبحانه في سياق الآية :  إلا عابري سبيل      [ النساء : 43 ] ، والعبور على فعل الصلاة لا يصح ، وإنما يصح العبور على مكانها فصار تقدير الآية :  لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى      [ النساء : 43 ] ولا موضع الصلاة وأنتم جنب  إلا عابري سبيل   فاستثنى الاجتياز من جملة النهي ، وهذا التأويل قد روي عن علي - عليه السلام -  وابن عباس   ، رضي الله عنهما ، فإن قيل : يحتمل قوله تعالى :  ولا جنبا إلا عابري سبيل      [ النساء : 43 ] . مسافرا عادما للماء فيتيمم ، ويصلي ، فيحمل أول الآية على الحقيقة وآخرها على الائتمار ، وأنتم حملتم آخر الآية على الحقيقة ، وأولها على المجاز فيستوي التأويلان ، ويتقابلا ، وكان هذا التأويل أشبه بالحال ، وهو أيضا مروي عن  علي - عليه السلام      -  وابن عباس   ، رضي الله عنهما ، قلنا : إذا تقابل التأويلان على ما ذكرتم ، واحتيج إلى الترجيح ، فتأويلنا أولى من وجهين :  
أحدهما : أنه إذا حملوا إضمار الصلاة على فعلها لم يستفيدوا بالآية إلا إباحة  الصلاة للجنب المتيمم   ، وإباحة الصلاة للجنب إذا تيمم مستفاد بآية أخرى ، وحمل الآيتين على حكمين مختلفين أولى من حملهما على حكم واحد .  
والثاني : أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ، فلما كان المراد بقوله تعالى :  ولا جنبا   الجنب الذي لم يستبح فعل الصلاة بالتيمم وهو المستثنى منه ، ويجب أن يكون قوله تعالى :  إلا عابري سبيل      [ النساء : 43 ] المراد به : جنبا لم يستبح فعل الصلاة بالتيمم ، لأنه الاستثناء ، فكان تأويلنا أولى بهذين الوجهين من الترجيح .  
فإن قيل : لا يصح أن يكون المراد بالآية موضع الصلاة بدلالة قوله تعالى :  حتى تعلموا ما تقولون      [ النساء : 43 ] وهذا مما لا يوصف به المجتاز ، وإنما يوصف به المصلي قيل : قد يوصف به المجتاز بموضع الصلاة ، لأنه إذا سكر لم يؤمن منه تنجيس المسجد إذا دخله فنهى عنه كما قال صلى الله عليه وسلم :  جنبوا مساجدكم أطفالكم ومحاريبكم  لأنهم يرسلون البول بغير اختيارهم كالسكران الذي ربما نجس المسجد بغير قصده .  
ثم الدليل في المسألة من طريق المعنى : هو أنه مكلف آمن منه تنجيس المسجد فجاز له العبور فيه كالمحدث ، وهذا خير قياس في المسألة .  
وقولنا : مكلف ، احتراز من الصغار ، والمجانين .  
وقولنا : آمن منه تنجيس المسجد احترازا من الحائض ، وصاحب النجاسة فأما تعلقهم      [ ص: 267 ] بالحديث فضعيف ، لأن راويه  ابن خليفة   ، عن  جسرة   ، عن  عائشة  ، رضي الله عنها  والأفلت بن خليفة   ضعيف متروك ، على أنه إن صح كان محمولا على المقام واللبث .  
وأما قياسهم على الحائض ، وصاحب النجاسة فمنتقض بمن  احتلم في المسجد   يجوز له الاجتياز فيه إجماعا ، ثم المعنى فيه : ما يخاف على المسجد التي هي من الجنب مأمونة .  
وأما قياسهم على المقيم فغير صحيح من وجهين :  
أحدهما : إن أمر الاجتياز أخف حكما من أمر المقام بدليل المحتلم في المسجد فلم يصح الجمع بينهما ، ورد الأخف منهما إلى الأصل .  
والثاني : أن اللبث في المسجد إنما أريد به القربة ، والجنب لا تصح منه أفعال القرب في المسجد : لأنه لا يقدر على القراءة والصلاة ، وإنما يمكنه الذكر في نفسه ، وذلك ممكن في غير المسجد ، فمن أجل هذا لم يبح له المقام فيه ، والعبور في المسجد نصا يكون لغرض ، أو لحاجة ، والجنب فيهما كالمحدث فاستويا في حكم الاجتياز .  
				
						
						
