( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ، أي : أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع ، ومنذرين بعقاب من عصى ، وقدم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقي النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه : ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ) ، وانتصاب مبشرين ومنذرين على الحال المقارنة . ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) معهم : حال من الكتاب ، وليس تعمل فيه أنزل ؛ إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة ، أي : وأنزل الكتاب مصاحبا لهم وقت الإنزال ، لم يكن مصاحبا لهم لكنه انتهى إليهم . والكتاب : إما أن تكون " أل " فيه للجنس ، وإما أن تكون للعهد ، على تأويل معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة ، قاله ، أنزلت على الطبري موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفردا وضع موضع الجمع ، وقد قيل به ، ويحتمل بالحق أن يكون متعلقا بـ " أنزل " ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ؛ لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ؛ فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي : مصحوبا بالحق ، وتكون حالا مؤكدة ؛ لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : ( فبعث الله ) . ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب [ ص: 136 ] فلم قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه ؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتابا يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى ؛ لأنهما حالان من النبيين ، فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب .
وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء - عليهم السلام - قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه . وما ذكر لا يظهر ؛ لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجبا بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلا بعد الوحي قطعا ؛ فإذن يتقدم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحي إليه قطعا . قال القاضي : وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دون أو لم يدون ، كان معجزا أو لم يكن ؛ لأن كون الكتاب منزلا معهم لا يقضي شيئا من ذلك . انتهى كلامه . ويحتمل أن يكون التجوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : ( وأنزلنا الحديد ) ، ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوز في الكتاب ؛ فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيرا مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب ؛ تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه .