الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4580 ) فصل : وإذا لم توجد قافة ، أو أشكل الأمر عليها ، أو تعارضت أقوالها ، أو وجد من لا يوثق بقوله ، لم يرجح أحدهما بذكر علامة في جسده ; لأن ذلك لا يرجح به في سائر الدعاوى ، سوى الالتقاط في المال واللقيط ، ويضيع نسبه . هذا قول أبي بكر . وقد أومأ أحمد ، رحمه الله ، في رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد ، إلى أن الابن يخير أيهما أحب . وهو قول أبي عبد الله بن حامد ، قال : يترك حتى يبلغ ، فينتسب إلى من أحب منهما . وهو قول الشافعي الجديد ، وقال في القديم : حتى يميز ; لقول عمر : وال أيهما شئت . ولأن الإنسان يميل بطبعه إلى قريبه دون غيره ، ولأنه مجهول نسبه ، أقر به من هو من أهل الإقرار ، وصدقه المقر له ، فيثبت نسبه ، كما لو انفرد . وقال أصحاب الرأي : يلحق بالمدعيين بمجرد الدعوى ; لأن كل واحد منهما لو انفرد سمعت دعواه ، فإذا اجتمعا ، وأمكن العمل بهما ، وجب ، كما لو أقر له بمال . ولنا أن دعواهما تعارضتا ، ولا حجة لواحد منهما ، فلم تثبت ، كما لو ادعيا رقه . وقولهم : يميل بطبعه إلى [ ص: 50 ] قرابته . قلنا : إنما يميل إلى قرابته بعد معرفته بأنها قرابته ، فالمعرفة بذلك سبب الميل ، ولا سبب قبله ، ولو ثبت أنه يميل إلى قرابته ، لكنه قد يميل إلى من أحسن إليه ، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها ، وقد يميل إليه لإساءة الآخر إليه ، وقد يميل إلى أحسنهما خلقا أو أعظمهما قدرا أو جاها أو مالا ، فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب . وقولهم : إنه صدق المقر بنسبه . قلنا : لا يحل له تصديقه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . وهذا لا يعلم أنه أبوه ، فلا يأمن أن يكون ملعونا بتصديقه ، ويفارق ما إذا انفرد ، فإن المنفرد يثبت النسب بقوله من غير تصديق . وأما قول عمر : وال من شئت . فلم يثبت ، ولو ثبت لم يكن فيه حجة ; فإنه إنما أمره بالمولاة ، لا بالانتساب . وعلى قول من جعل له الانتساب إلى أحدهما ، لو انتسب إلى أحدهما ، ثم عاد وانتسب إلى الآخر ، ونفى نسبه من الأول ، أو لم ينتسب إلى واحد ، لم يقبل منه ; لأنه قد ثبت نسبه ، فلا يقبل رجوعه عنه ، كما لو ادعى منفرد نسبه ثم أنكره ، ويفارق الصبي الذي يخير بين أبويه ، فيختار أحدهما ، ثم يرد الآخر ، إذا اختاره ، فإنه لا حكم لقول الصبي ، وإنما تبع اختياره وشهوته ، فأشبه ما لو اشتهى طعاما في يوم ، ثم اشتهى غيره في يوم آخر . وإن قامت للآخر بنسبه بينة ، عمل بها ، وبطل انتسابه ; لأنها تبطل قول القافة ، الذي هو مقدم على الانتساب ، فلأن تبطل الانتساب أولى . وإن وجدت قافة بعد انتسابه ، فألحقته بغير من انتسب إليه ، بطل انتسابه أيضا ; لأنه أقوى ، فبطل به الانتساب كالبينة مع قول القافة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية