الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  264 20 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ويحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه قال : ذكرته لعائشة فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه ، ثم يصبح محرما ينضخ طيبا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله : فيطوف على نسائه . فإن قلت : قال الإسماعيلي : يحتمل أن يراد به الجماع ، ويحتمل أن يراد به تجديد العهد بهن . قلت : الاحتمال الثاني بعيد ، والمراد به الجماع يدل عليه الحديث الثاني الذي يليه ، فإنه ذكر فيه أنه أعطي قوة ثلاثين ، ويطوف ها هنا مثل يدور في الحديث الثاني ، ثم اعلم أن نسخ البخاري مختلفة في تقديم حديث أنس على حديث عائشة وعكسه ، ومشى الداودي على تقديم حديث عائشة ، وكذا ابن بطال في شرحه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم سبعة : الأول : محمد بن بشار بفتح الباء الموحدة والشين المعجمة المعروف ببندار ، وقد تقدم . الثاني : ابن أبي عدي هو محمد بن إبراهيم مات بالبصرة سنة أربع وتسعين ومائة . الثالث : يحيى بن سعيد القطان تقدم . الرابع : شعبة بن الحجاج . الخامس : إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، بضم الميم وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوق ، وكسر الشين المعجمة. السادس : أبوه محمد المذكور . السابع : عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين . وفيه : العنعنة في ثلاثة مواضع . وفيه : الذكر والقول . وفيه : بين قوله : ويحيى بن سعيد وبين شعبة لفظة " كلاهما " مقدرة ; لأن كلا من ابن أبي عدي ويحيى روى عن شعبة هذا الحديث ، وحذفت من الكتابة للاصطلاح ، ولكن عند القراءة ينبغي أن تثبت . وفيه أن رواته ما بين كوفي وبصري .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري في هذا الباب ، وفي الباب الذي يليه كما يجيء عن قريب ، وأخرجه مسلم في الحج عن سعيد بن منصور وأبي كامل الجحدري ، كلاهما عن أبي عوانة وعن يحيى بن حبيب ، وعن أبي كريب ، وأخرجه النسائي في الطهارة عن هناد وعن حميد بن مسعدة .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 214 ] ذكر لغاته ومعناه . قوله : " ذكرته " ، أي : ذكرت قول ابن عمر لعائشة ، ولفظه في حديثه الآخر الذي يأتي : سألت عائشة رضي الله تعالى عنها ، وذكرت لها قول ابن عمر : ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا ، فقالت عائشة : أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ، وقد بين مسلم أيضا في روايته عن محمد بن المنكدر ، قال : سألت ابن عمر عن الرجل يتطيب ، ثم يصبح محرما ، فذكره . وزاد : قال ابن عمر : لأن أطلى بقطران أحب لي من أن أفعل ذلك . وكذا ساقه الإسماعيلي بتمامه عن الحسن بن سفيان عن محمد بن بشار ، وقال الكرماني : قوله : ذكرته ، أي : قول ابن عمر : ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا وكنى بالضمير عنه ; لأنه معلوم عند أهل الشأن . قلت : هذا كلام عجيب فالوقوف على مثل هذا مختص بأهل الشأن ، فإذا وقف أحد من غير أهل الشأن على هذا الحديث يتحير فلا يدري ، أي شيء يرجع إليه الضمير في قوله : وذكرته ، وكان ينبغي للبخاري بل كان المتعين عليه أن يقدم رواية أبي النعمان هذا الحديث على رواية محمد بن بشار ; لأن رواية أبي النعمان ظاهرة ، والذي يقف على رواية محمد بن بشار بعد وقوفه على رواية أبي النعمان لا يتوقف في مرجع الضمير ويعلم أنه يرجع إلى قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، وقال بعضهم : فكأن المصنف اختصره لكون المحذوف معلوما عند أهل الحديث في هذه القصة . قلت : هذا أعجب من ذلك مع أنه أخذ ما قاله منه ، وقال أيضا : أو حدثه به محمد بن بشار مختصرا . قلت : فعلى هذا كان يتعين ذكره بعد ذكر رواية أبي النعمان كما ذكرنا . قوله : " فيطوف على نسائه " . قال بعضهم : هو كناية عن الجماع . قلت : يحتمل أن يراد به تجديد العهد بهن ، ذكره الإسماعيلي ، ولكن القرينة دلت على أن المراد هو الجماع ، والدليل عليه قوله في حديث أنس الذي يأتي : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار . قوله : " ينضخ " بفتح الياء والضاد المعجمة بعدها خاء معجمة ، أي : يفور ومنه قوله تعالى : فيهما عينان نضاختان ، وهذا هو المشهور ، وضبطه بعضهم بالحاء المهملة قاله الإسماعيلي ، وكذا ضبطه عامة من حدثنا ، وهما متقاربان في المعنى ، وقال ابن الأثير : وقد اختلف في أيهما أكثر والأكثر بالمعجمة أقل من المهملة ، وقيل : بالمعجمة الأثر يبقى في الثوب والجسد وبالمهملة الفعل نفسه ، وقيل : بالمعجمة ما فعل متعمدا وبالمهملة من غير تعمد وذكر صاحب ( المطالع ) عن ابن كيسان أنه بالمهملة لما رق كالماء ، وبالمعجمة لما ثخن كالطيب ، وقال النووي : هو بالمعجمة أقل من المهملة ، وقيل عكسه ، وقال ابن بطال : من رواه بالحاء فالنضح عند العرب كاللطخ ، يقال : نضح ثوبه بالطيب هذا قول الخليل ، وفي كتاب ( الأفعال ) : نضخت العين بالماء نضخا إذا فارت ، واحتج بقوله تعالى : فيهما عينان نضاختان ومن رواه بالحاء ، فقال صاحب ( العين ) : نضحت العين بالماء إذا رأيتها تفور ، وكذلك العين الناظرة إذا رأيتها مغرورقة ، وفي الصحاح قال أبو زيد : النضخ بالإعجام : الرش ، مثل النضح بالإهمال وهما بمعنى ، وقال الأصمعي : يقال : أصابه نضخ من كذا ، وهو أكثر من النضح بالمهملة . قوله : " طيبا " نصب على التمييز .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر استنباط الأحكام منه ) فيه دلالة على استحباب الطيب عند الإحرام ، وأنه لا بأس به إذا استدام بعد الإحرام ، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام ، وهذا مذهب الثوري والشافعي وأبي يوسف وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم ، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وجماهير المحدثين والفقهاء ، فمن الصحابة سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعائشة وأم حبيبة رضي الله تعالى عنهم ، وقال آخرون بمنعه ، منهم الزهري ومالك ومحمد بن الحسن ، وحكي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وادعى بعضهم أن هذا التطيب كان للنساء لا للإحرام ، وادعى أن في هذه الرواية تقديما وتأخيرا ، التقدير : فيطوف على نسائه ينضخ طيبا ، ثم يصبح محرما ، وجاء ذلك في بعض الروايات والطيب يزول بالغسل لا سيما أنه ورد أنه كان يغتسل عند كل واحدة منهن وكان هذا الطيب ذريرة كما أخرجه البخاري في اللباس ، وهو مما يذهبه الغسل وتقويه رواية البخاري الآتية قريبا : : طيبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ثم طاف في نسائه ، ثم أصبح محرما . وروايته الآتية أيضا : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه ، وهو محرم . وفي بعض الروايات بعد ثلاث . وقال القرطبي : هذا الطيب كان دهنا له أثر فيه مسك ، فزال وبقيت رائحته ، وادعى بعضهم خصوصية ذلك بالشارع فإنه أمر صاحب الجبة بغسله . قال المهلب رحمه الله تعالى : السنة اتخاذ الطيب للنساء والرجال عند الجماع ، فكان صلى الله تعالى عليه وسلم أملك لإربه من سائر أمته ، فلذلك كان لا يتجنب الطيب في الإحرام ، ونهانا عنه لضعفنا عن ملك الشهوات إذ الطيب من أسباب الجماع . وفيه : الاحتجاج لمن لا يوجب الدلك في الغسل ; لأنه لو كان دلك لم [ ص: 215 ] ينضح منه الطيب . قلت : يجوز أن يكون دلكه ، لكنه بقي وبيصه ، والطيب إذا كان كثيرا ربما غسله فيذهب ويبقى وبيصه . وفيه : عدم كراهة كثرة الجماع عند الطاقة . وفيه : عدم كراهة التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع . وفيه : أن غسل الجنابة ليس على الفور ، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة ، وهذا بالإجماع . فإن قلت : ما سبب وجوب الغسل ؟ قلت : الجنابة ، مع إرادة القيام إلى الصلاة ، كما أن سبب الوضوء الحدث مع إرادة القيام إلى الصلاة وليس الجنابة وحدها ، كما هو مذهب بعض الشافعية ، وإلا يلزم أن يجب الغسل عقيب الجماع ، والحديث ينافي هذا ولا مجرد إرادة الصلاة ، وإلا يلزم أن يجب الغسل بدون الجنابة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية