الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الثالثة ) إذا قال أنت طالق أو طلقتك ونوى عددا لزمه ووافقنا الشافعي .

وقال أبو حنيفة رضي الله عنهما إذا نوى الثلاث لزمه واحدة رجعية لأن اسم الفاعل لا يفيد إلا أصل المعنى فالزائد يكون بمجرد النية والنية لا توجب طلاقا وجوابه أن لفظ ثلاثا إذا لفظ بها تبين المراد باللفظ نحو قوله قبضت عشرين درهما فقوله درهما يفيد اختصاص العدد بالدراهم وإن كان لا يدل عليه لغة فكذلك ثلاثا يخصص اللفظ بالبينونة وكل ما كان يحصل مع المفسر وجب أن يحصل قبله ؛ لأن المفسر إنما جعل لفهم السامع لا لثبوت ذلك الحكم في نفس الأمر كقوله تعالى أقيموا الصلاة الشرعية لكن لما ورد البيان من السنة في خصوصياتها وهيئاتها وأحوالها عد ذلك ثابتا بلفظ القرآن وأجمع المسلمون على أن الصلاة والزكاة مشروعة بالقرآن والقاعدة أن كل بيان لمجمل يعد منطوقا [ ص: 165 ] به في ذلك المجمل كذلك هاهنا وإن كان أبو حنيفة رحمه الله وافقنا على قوله أنت بائن وأنت طالق طلاقا وطلقتك وطلقي نفسك أنه إذا نوى بها الثلاث لزمته فكذلك هاهنا

المسألة الرابعة حكى صاحب كتاب مجالس العلماء أن الرشيد كتب إلى قاضيه أبي يوسف هذه الأبيات وبعث بها إليه يمتحنه بها :

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم     فأنت طالق والطلاق عزيمة
ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم     فبيني بها أن كنت غير رفيقة
وما لامرئ بعد الثلاثة مقدم

.

وقال له إذا نصبنا ثلاثا كم يلزمه ، وإذا رفعنا كم يلزمه فأشكل عليه ذلك وحمل الرقعة للكسائي وكان معه في الدرب فقال له الكسائي اكتب له في الجواب يلزمه بالرفع واحدة وبالنصب ثلاث يعني أن الرفع يقتضي أنه خبر عن المبتدأ الذي هو الطلاق الثاني ويكون منقطعا عن الأول فلم يبق إلا قوله أنت طالق فتلزمه واحدة وبالنصب يكون تمييزا لقوله فأنت طالق فيلزمه الثلاث فإن ، قلت إذا نصبناه أمكن أن يكون تمييزا عن الأول كما ، قلت وأمكن أن يكون منصوبا على الحال من الثاني أي الطلاق معزوم عليه في حال كونه ثلاثا أو تمييزا له فلم خصصته بالأول ، قلت : الطلاق الأول منكر يحتمل بسبب تنكيره جميع مراتب الجنس وأعداده وأنواعه من غير تنصيص على شيء من ذلك لأجل التنكير فاحتاج للتمييز ليحصل المراد من ذلك المنكر المجهول .

وأما الثاني فمعرفها استغنى بتعريفه واستغراقه الناشئ عن لام التعريف عن البيان فهذا هو المرجح ويحكى أن الرشيد بعث له بهذه الرقعة أول الليل وبعث أبو يوسف الجواب بها أول الليل على حاله وجاءه من آخر الليل بغال موسقة قماشا وتحفا جائزة على جوابه فبعث بها أبو يوسف إلى الكسائي ولم يأخذ منها شيئا بسبب أنه هو الذي أعانه على الجواب فيها .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الرابعة ) ذهب إمامنا والشافعي إلى أنه إذا قال أنت طالق أو طلقتك ونوى عددا لزمه ما نواه ، وقال أبو حنيفة إذا نوى الثلاث لزمه واحدة رجعية محتجا بأن اسم الفاعل لا يفيد إلا أصل المعنى فالزائد يكون بمجرد النية والنية لا توجب طلاقا واحتجاجه هذا مدفوع بوجهين

( الوجه الأول ) أن لفظ ثلاثا مع صريح الطلاق كلفظ درهما مع نحو عشرين من ألفاظ العدد ، فكما أن لفظ درهما في نحو قوله عندي عشرين درهما يفيد اختصاص العدد بالدراهم وإن كان لا يدل عليه لغة كذلك لفظ ثلاثا في نحو قوله أنت طالق ثلاثا يخصص اللفظ بالبينونة وكل ما كان يحصل مع المفسر كتخصيص صريح الطلاق بالبينونة مع لفظ ثلاثا وجب أن يحصل قبله ؛ لأن المفسر إنما جعل لفهم السامع لا لثبوت ذلك الحكم في نفس الأمر ووجب أن يعد منطوقا به فيه إذ القاعدة أن كل بيان لمجمل يعد منطوقا به في ذلك المجمل ألا ترى أن قوله تعالى { وأقيموا الصلاة } لا يدل على خصوص الصلوات الشرعية لكن لما ورد البيان من السنة في خصوصياتها وهيئتها وأحوالها عد ذلك ثابتا بلفظ القرآن وأجمع المسلمون على أن الصلاة مشروعة بالقرآن

( الوجه الثاني ) أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى وافقنا على أنه إذا قال أنت بائن أو أنت طالق طلاقا أو طلقتك أو طلقي نفسك ونوى الثلاث لزمته فكذلك ها هنا وإلا فما الفارق

( المسألة الخامسة ) حكى صاحب كتاب مجالس العلماء وصاحب المغني أن الرشيد كتب ليلة إلى قاضيه أبي يوسف يسأله عن قول القائل :

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم فأنت طلاق والطلاق عزيمة
ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم فبيني بها أن كنت غير رفيقة
وما لامرئ بعد الثلاث مقدم

فقال ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث ، وإذا نصبها قال أبو يوسف فقلت هذه مسألة نحوية فقهية ولا آمن الخطأ فيها إن قلت فيها برأيي فأتيت الكسائي وهو في فراشه فسألته فقال إن رفع ثلاث طلقت واحدة ؛ لأنه قال أنت طلاق وأخبر أن الطلاق التام ثلاث وإن نصبها طلقت ثلاثا ؛ لأن معناه أنت طالق ثلاثا وما بينهما جملة معترضة فكتبت بذلك إلى الرشيد أول الليل إثر إرساله بالسؤال فأرسل إلي آخر الليل بغالا موسقة قماشا وتحفا جائزة على الجواب فوجهت بها إلى الكسائي بسبب أنه أعانني على الجواب ا هـ .

قال الأمير على المغني والأبياري عليه تخرقي من باب فتح وكرم وأيمن تفضيل من اليمن البركة ضد أشأم والخرق العنف وزنا ومعنى هنا اسم لا غير وبفتح الخاء والراء مصدر واسم كما يعلم من القاموس ويأتي بمعنى الدهش لخوف أو حياء وعدم إتقان العمل باليد أيضا ، ومن يخرق جعلها ابن يعيش شرطية حذف صدر جوابها أي فهو أعق ، وقال الدماميني موصولة خبرها أعق وتسكين يخرق للتخفيف كقراءة أبي عمرو في نحو يأمركم فأصله الرفع ، وقوله أن كنت بفتح الهمزة ولام العلة مقدرة معها فالمعنى بيني أي ابعدي عني وفارقيني بهذه التطليقات لأجل أن كنت غير رفيقة أي لم يكن فيك رفق ولين ، بل شؤم وعنف ومقدم اسم مفعول بمعنى التقدم أي المصدر فهو من قدم بمعنى تقدم فالمعنى ليس لأحد تقدم إلى الخمسة مثلا بعد إيقاع الثلاث ؛ لأنها نهاية الطلاق ا هـ وبحث في هذه الرواية بوجوه

( الوجه [ ص: 201 ] الأول ) لصاحب المغني أنه لا يخلو إما أن ينظر لما أراده هذا الشاعر المعين فيقال هو إنما أراد الثلاث لقوله بعد فبيني بها ، البيت ، وإما أن ينظر إلى ما يقتضيه معنى هذا اللفظ مع قطع النظر عن شيء آخر من قواعد الفقهاء واستحساناته م فيقال الصواب أن كلا من الرفع والنصب محتمل لوقوع الثلاث ولوقوع الواحدة أما الرفع فلأن " الـ " في الطلاق إما لمجاز الجنس كما تقول الرجل المعتد به وإما للعهد الذكري مثلها في { فعصى فرعون الرسول } أي ، وهذا الطلاق المذكور عزيمة ثلاث ولا تكون للجنس الحقيقي لئلا يلزم الإخبار عن العام بالخاص كما يقال الحيوان إنسان وذلك باطل إذ ليس كل حيوان إنسان ولا كل طلاق عزيمة ولا ثلاث فعلى الجنسية المجازية تقع واحدة كما قال الكسائي وعلى العهدية تقع الثلاث ، وهذا مما فات الكسائي .

وأما النصب فلأنه محتمل لأن يكون على المفعول المطلق فيقتضي وقوع الطلاق الثلاث حيث جعل معمولا لطلاق الأول كما هو المتبادر إذ المعنى فأنت طالق ثلاثا واعترض بينهما بقوله والطلاق عزيمة أو جعل معمولا للطلاق الثاني واللام للعهد أما إذا جعل مفعولا لطلاق الثاني واللام للجنس فلا يقتضي وقوع الثلاث ، بل واحدة ولأن يكون حالا من الضمير المستتر في عزيمة ؛ لأنها وإن كانت مصدرا مؤولة باسم المفعول كما أن طلاق مؤول بطالق فلا يلزم وقوع الثلاث وإن احتملها بجعل " الـ " للعهد الذكري ؛ لأن المعنى والطلاق عزيمة إذا كان ثلاثا بمعنى أن الفراق به حال كونه ثلاثا فإنما يقع ما نواه ا هـ بتصرف وتوضيح قال البناني قال ابن غازي وهو تحرير عجيب ا هـ .

وبقي أنه إما أن ينظر إلى ما يقتضيه اللفظ مع النظر إلى قواعد الفقهاء واستحساناته م وغير ذلك فيقال إن من الفقهاء من يقول إذا احتمل اللفظ الواحدة وغيرها لم يلزمه إلا واحدة وحينئذ فلا يلزمه إلا واحدة رفع أو نصب ومنهم من يقول بوقوع الثلاث إذا احتمل اللفظ ذلك مراعاة للاحتياط وحينئذ فلا يلزمه إلا الثلاث رفع أو نصب كما يؤخذ من حواشي المغني للأمير والأبياري قال عبق على خليل مقتضى مذهبنا لزوم الثلاث في الرفع والنصب احتياطا ا هـ أي ولا يلتفت لمطابقة النحو ولذا قال الشيخ العمادي مجيبا للشيخ أحمد الدمنهوري حين سأله عن هذا :

ومذهبنا المفتى به عند مالك وقوع ثلاث مطلقا وهو أسلم

إلى أن قال :

، وقد قال في المغني خلاف الذي جرى كما للدماميني بنص يترجم
وإن انتصابا وارتفاعا كلاهما يفيد احتماليه بذلك صمموا
فيحتمل التوحيد دون ثلاثة ويحتمل التوقيف والوقف أفخم

ا هـ كنون .

وأجاب ابن الصائغ عن الاحتمال مع الرفع باختيار الشق الأول واعتماد القول بأنه إذا احتمل الواحدة وغيرها لم يلزمه إلا واحدة فصح أنه على الرفع طلقت واحدة كما في حواشي الأمير على المغني وأيده في القصر بأمرين الأول أن اختياره الشق الأول دون الثاني كما زعم الشمني هو المتبادر من تعبير المغني بالصواب المقتضي أن ما فعله الكسائي خطأ ، الثاني أن السائل له أجل فقيه فلا يحسن قطع النظر عن قواعد الفقهاء في جوابه والكسائي لم يكن غرا في تلك القواعد [ ص: 202 ] وإنما كانت العربية والقراءة أغلب عليه ا هـ .

وأجاب الأصل عن الاحتمال مع النصب بأن المرجح لجعله معمولا لطلاق الأول على أنه مفعول مطلق أو تمييز هو أنه منكر يحتمل سبب تنكره جميع مراتب الجنس وأعداده وأنواعه من غير تنصيص على شيء من ذلك لأجل التنكير فاحتاج للتمييز ليحصل المراد من ذلك المنكر المجهول ،

وأما الطلاق الثاني فبتعريفه واستغراقه الناشئ عن لام التعريف يستغنى عن البيان ا هـ والظاهر أن مراده الاستغراق المجازي الحقيقي لما علمته في كلام المغني المتقدم فلا تغفل نعم قال ابن الضائع يمكن على إرادة الكل المجموعي أي لا كل فرد فرد فيصير المعنى أن مجموع أفراد الطلاق ثلاث والمجموع خاص ، فيكون إخبارا عن خاص بخاص ورده الشمني بأن الاستغراق عندهم من باب الكلية أي الحكم على كل فرد ولهذا امتنع وصف المفرد الداخل عليه حرف الاستغراق بنعت الجمع عند الجمهور وإن حكاه الأخفش في نحو الدينار الصفر والدراهم البيض أمير بتوضيح

( الوجه الثاني ) قال الأمير في حواشي المغني شنع الكمال بن الهمام على المصنف يعني ابن هشام بأنه جهل بمقام الاجتهاد فإنه يستلزم معرفة أساليب الكلام فلا يحتاج أبو يوسف إلى مراجعة الكسائي قلنا أي في الجواب عن ذلك هذا من تعاون العلماء ومشاركتهم خصوصا أهل دولة واحدة ، بل هو عين إمامية أبي يوسف وكماله حيث لم يستقل برأيه مع عدم احتياجه وهكذا شأن السلف ولعمري الكسائي أحد القراء السبعة وإمام العربية يتكلم معه في مثل هذه ا هـ بلفظ الوجه الثالث قال الأمير أيضا قيل الصواب أن السؤال من الكسائي لمحمد قلنا أي في الجواب عن ذلك تعدد الواقعة ممكن ا هـ بلفظه والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة السادسة ) في بداية ابن رشد الحفيد لا يقبل عند مالك ما يدعيه من دون الثلاث في الكنايات الظاهرة مثل قولهم حبلك على غاربك ومثل البتة ومثل قولهم أنت خلية أو برية حيث قال ذلك في المدخول بها إلا أن يكون قاله في الخلع .

وأما في غير المدخول بها فيصدقه فيما يدعيه من دون الثلاث فيها ؛ لأن طلاق غير المدخول بها بائن ويقبل ما يدعيه من دون الثلاث فيها مطلقا عند الشافعي ، وكذا عند أبي حنيفة إلا أن يكون في مذاكرة الطلاق فإنه يطلق عليه بالكنايات كلها مع هذه القرينة إلا بأربع حبلك على غاربك واعتدي واستبري وتقنعي ؛ لأنها عنده من المحتملة غير الظاهرة والمحتملة عند جمهور العلماء ليس فيها شيء وإن نوى طلاقا خلافا لمالك والشافعي في قولهما إنه يعتبر في المحتملة نية ا هـ ملخصا ولا يخفاك أن إطلاقه الحكم المذكور فيما ذكره من ألفاظ الكنايات الظاهرة يخالف ما تقدم في تقسيمها من أن بتة وحبلك على غاربك مما يلزم به ثلاث ولا ينوي مطلقا مثل وأنت خلية أو برية مما يلزم فيه الثلاث في المدخول بها كغيرها إن لم ينو أقل نعم قد مر عن الأصل أن المدار في تلك الألفاظ العرف فلعل ما تقدم مبني على عرف ، وهذا مبني على عرف آخر ، والله أعلم



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة السابعة ) في حاشية العطار على محلى جمع الجوامع قال القرافي ، قلت يوما للشيخ عز الدين بن عبد السلام إن القراء التزموا قاعدة أن المعرف باللام للعموم في الأصول وخالفوها في الفروع حيث قالوا لو قال الطلاق يلزمني بغير نية لم يلزمه إلا طلقة واحدة فقال رحمه الله تعالى سبب المخالفة أن الأيمان تتبع المنقولات العرفية دون الأوضاع اللغوية إذا تعارضا ، وقد انتقل اللام في الحلف بالطلاق لحقيقة [ ص: 203 ] الجنس دون استغراق الجنس فلذا كان الحالف لا يلزمه إلا الماهية المشتركة فلا تزيد اللام له على الواحد ا هـ محل الحاجة قال الشربيني لكنهم قالوا إن الذي يتبع العرف مطلقا هو الحلف بغير الطلاق أما به فيتبع اللغة متى اشتهرت وإن اشتهر العرف اللهم إلا أن يكون المعنى اللغوي هنا غير مشهور ا هـ ولعل مراده فقهاء الشافعية وإلا فالمالكية على أن الحلف مطلقا يتبع العرف مطلقا والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية