الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف فيها فقيل : إنها عند طلوع الشمس وقيل : عند الزوال وقيل : مع الأذان وقيل : إذا صعد الإمام المنبر ، وأخذ في الخطبة وقيل : إذا قام الناس إلى الصلاة وقيل : آخر وقت العصر أعني وقت الاختيار وقيل : قبل غروب الشمس وكانت فاطمة رضي الله عنها تراعي ذلك الوقت ، وتأمر خادمتها أن تنظر إلى الشمس ، فتؤذنها بسقوطها ، فتأخذ في الدعاء ، والاستغفار إلى أن تغرب الشمس ، وتخبر بأن تلك الساعة هي المنتظرة وتؤثره عن أبيها صلى الله عليه وسلم وعليها وقال بعض العلماء : هي مبهمة في جميع اليوم مثل ليلة القدر تتوفر الدواعي على مراقبتها .

وقيل : إنها تنتقل في ساعات يوم الجمعة كتنقل ليلة القدر وهذا هو الأشبه وله سر لا يليق بعلم المعاملة ذكره ولكن ينبغي أن يصدق بما قال صلى الله عليه وسلم إن : لربكم في أيام دهركم نفحات ، ألا فتعرضوا لها .

التالي السابق


(واختلف فيها) ؛ أي: في تعيينها على أقوال زادت عن العشرين، وقد تبع المصنف صاحب القوت، فلم يزد على ما أورده (فقيل: إنها عند طلوع الشمس) من يومها. نقله صاحب القوت، وهو القول الأول (وقيل: عند الزوال) ؛ أي: زوال الشمس من كبد السماء. رواه ابن أبي شيبة، عن البصري، وحكاه ابن المنذر عنه، وعن أبي العالية، وهو القول الثاني (وقيل: مع الأذان) رواه ابن أبي شيبة، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنه قال: إني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات إذا أذن المؤذن. الحديث، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، عن أبي أمامة، وهذا هو القول الثالث (وقيل: إذا صعد الخطيب المنبر، وأخذ في) الذكر؛ أي: (الخطبة) . رواه ابن أبي شيبة، عن أبي أمامة، وهذا هو القول الرابع (وقيل: إذا قام الناس إلى الصلاة) . رواه ابن أبي شيبة، والطبراني، عن أبي أمامة، وروى الطبراني في الكبير من حديث ميمونة بنت سعد قالت: أية ساعة هي يا رسول الله؟ قال: ذلك حين يقوم

[ ص: 280 ] الإمام،
وسنده ضعيف، وهو محتمل أن يراد به القيام للصلاة كأمر الله، أو القيام إلى الخطبة، وهو القول الخامس (وقيل: آخر وقت العصر) ، ولفظ القوت: بعد العصر من آخر أوقاتها، وأوضحه المصنف، فقال: (أعني وقت الاختيار) . رواه أحمد من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وقال العراقي في شرح الترمذي: أكثر الأحاديث يدل على أنها بعد العصر، فمن ذلك حديث أنس، وعبد الله بن سلام، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وفاطمة؛ صح منها حديث عبد الله بن سلام، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة. اهـ .

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه هذا القول، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وطاوس، ومجاهد، وحكاه ابن بطال، عن مجاهد، وقال المهلب: وحجة من قال: إنها بعد العصر قوله -صلى الله عليه وسلم-: يتعاقبون فيكم ملائكة الليل، والنهار يجتمعون في صلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم. فهو وقت العروج، وعروض الأعمال على الله تعالى، فيوجب الله تعالى مغفرته للمصلين من عباده؛ ولذلك شدد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطي بها أكثر تعظيما للساعة، وفيها يكون اللعان، والقسامة، وقيل: في قوله تعالى: تحبسونهما من بعد الصلاة إنها العصر. اهـ .

وحكاه الترمذي في جامعه، عن أحمد، وإسحاق، ثم قال: وقال أحمد: أكثر الأحاديث في الساعة التي يرجى فيها الإجابة أنها بعد العصر، وقال ابن عبد البر: إن هذا القول أثبت شيء إن شاء الله تعالى. اهـ .

والظاهر أن المراد بقولهم بعد العصر؛ أي: بعد صلاة العصر، وبه صرح ابن عباس، فحينئذ، فهل يختلف الحال بتقديم الصلاة، وتأخيرها، أو يقال: المراد مع الصلاة المتوسطة في أول الوقت، وقد يقال: المراد دخول وقت العصر، ورجح المصنف آخر وقته، وهو وقت الاختيار، ولكن قولهم بعد العصر محتمل لما ذكرنا، وهو القول السادس (وقيل: قبل غروب الشمس) إذا تدلى حاجبها الأسفل، وهي لحظة يسيرة من أثناء الساعة الأخيرة المنتظمة من اثنتي عشرة ساعة (وكانت فاطمة - رضي الله عنها - تراعي ذلك الوقت، وتأمر خادمتها أن تنظر إلى الشمس، فتؤذنها بسقوطها، فتأخذ في الدعاء، والاستغفار إلى أن تغرب، وتخبر بأن تلك هي الساعة المنتظرة) للإجابة (وتأثر) ؛ أي: تنقل ذلك (عن أبيها صلى الله عليه وسلم) ذكر الدارقطني في العلل أنها - رضي الله عنها - قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف الشمس للغروب، فكانت فاطمة تقول لغلام لها: اصعد إلى الظراب، فإذا رأيت الشمس قد تدلى نصف عينها، فأخبرني حتى أدعو، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب، وهذا هو القول السابع .

(وقال بعض العلماء: هي مبهمة في جميع اليوم) لا يعلمها إلا الله تعالى؛ كأنه جعلها (مثل ليلة القدر) ، أي: بمنزلتها مبهمة في جميع شهر رمضان، وكأنها مثل الصلاة الوسطى في جملة الصلوات، حكاه القاضي عياض، وغيره، ونقله صاحب القوت هكذا، فإن قيل: لم أبهمها؟ فقيل في الجواب: (حتى تتوفر الدواعي على مراقبتها) في ذلك اليوم، وهذا هو القول الثامن (وقيل: إنها) لا تلزم ساعة بعينها؛ بل (تنتقل في) جميع (ساعات يوم الجمعة كتنقل ليلة القدر) عند بعضهم في ليالي الشهر ليكون العبد إلى الله طالبا راغبا متضرعا مفتقرا في جميع ذلك اليوم (وهذا هو) القول التاسع، وبه ختم صاحب القوت الأقوال، وهو (الأشبه) ، وأشار إليه النووي في الخلاصة، فقال: يحتمل أنها تنتقل (وله سر) خفي (لا يليق بعلم المعاملة ذكره) ؛ لأنه غريب، فلغربته ربما لا تحتمله عقول أهل الظاهر (ولكن ينبغي أن يصدق بما قال -صلى الله عليه وسلم- : بأن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها) . قال العراقي: أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر، والطبراني في الأوسط من حديث محمد بن مسلمة، ولابن عبد البر في التمهيد نحوه من حديث أنس، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب المفرج من حديث أبي هريرة، واختلف في إسناده. اهـ .

قلت: وعزاه الحافظ السيوطي إلى الطبراني في الكبير، عن محمد بن مسلمة، فوهم، وإنما هو في الأوسط، كما قاله العراقي، ويحتمل أن يكون في كل منهما، فليحرر، ولفظه عنده: إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها؛ لعله أن يصيبكم نفحة منها، فلا تشقون بعدها أبدا، وقال أبو نعيم في الحلية في ترجمة أبي الدرداء -رضي الله عنه- : حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن شبل، حدثنا

[ ص: 281 ] أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا شيخ منا يقال له: الحكم بن فضيل، عن زيد بن أسلم قال: قال أبو الدرداء: التمسوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيبها من شاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم. اهـ .

وقال المناوي في شرحه على الجامع: النفحة الدفعة من العطية، والمراد بالنفحات هنا؛ أي: تجليات مقربات يصيب بها من شاء من عباده، وتلك النفحات من باب خزائن المنن، فإن خزائن الثواب بمقدار الجزاء بخلاف خزائن المنن، وأبهم وقت الفتح هنا ليتعرض في كل وقت، فمن داوم الطلب يوشك أن يصادف وقت الفتح، فيظفر بالغنى الأكبر، ويسعد السعد الأفخر، وكم من سائل سأل، فرد مرارا، فإذا وافق المسؤول قد فتح له لا يرده، وإن كان قد رده قبل. اهـ .




الخدمات العلمية