الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وناسب وصفه بالحكمة ، وهي إتقان الأشياء ووضعها على ما ينبغي ، وهي تناسب التكليف أيضا . ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ، سبب نزول هذه الآية ما روى هشام بن عروة ، عن أبيه : أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل انقضاء عدتها ، كان له ذلك ، ولو طلق ألف ألف مرة ، فطلق رجل امرأته ، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها . رجل استبرأ ، فحين طلق شارفت انقضاء العدة راجعها ، ثم طلقها ، ثم قال : والله لا أقربك إلي ولا تخلين مني ، فشكت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي ، وكانوا يطلقون ويراجعون من غير حد ولا عد ، بين في هذه الآية أنه مرتان ، فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان ، أي : يملك المراجعة إذا طلقها ، ثم يملكها إذا طلق ، ثم إذا طلق ثالثة لا يملكها . وهو على حذف مضاف ، أي : عدد الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان ، والثالثة لا يملك فيها الرجعة . فعلى هذا الألف واللام في الطلاق للعهد ، في الطلاق السابق ، وهو الذي تثبت معه الرجعة ، وبه قال عروة ، وقتادة . وقيل : طلاق السنة المندوب بينه بقوله : ( الطلاق مرتان ) ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . وقيل : المعنى بذلك تفريق الطلاق إذا أراد أن يطلق ثلاثا ، وهو يقتضيه اللفظ ؛ لأنه لو طلق مرتين معا في [ ص: 192 ] لفظ واحد لما جاز أن يقال : طلقها مرتين ، وكذلك لو دفع إلى رجل درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرتين ، حتى يفرق الدفع ؛ فحينئذ يصدق عليه . هكذا بحثوه في هذا الموضع ، وهو بحث صحيح . وما زال يختلج في خاطري أنه لو قال : أنت طالق مرتين أو ثلاثا - أنه لا يقع إلا واحدة ؛ لأنه مصدر للطلاق ، ويقتضي العدد ؛ فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجودا ، كما تقول : ضربت ضربتين ، أو ثلاث ضربات ؛ لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل ، فمتى لم يتكرر وجودا استحال أن يكرر مصدره وأن يبين رتب العدد ، فإذا قال : أنت طالق ثلاثا ، فهذه لفظ واحد ، ومدلوله واحد ، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثا أو اثنين ، ونظير هذا أن ينشئ الإنسان بيعا بينه وبين رجل في شيء ، ثم يقول عند التخاطب : بعتك هذا ثلاثا ، فقوله " ثلاثا " لغو وغير مطابق لما قبله ، والإنشاءات أيضا يستحيل التكرار فيها حتى يصير المجمل قابلا لذلك الإنشاء ، وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال : طلقتك مرتين أو ثلاثا ؛ أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثا على ما نذكره . قالوا : وتشتمل هذه الآية على أحكام ، منها أن مسنون الطلاق التفريق بين أعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثا ، وأن من طلق ثلاثا أو اثنتين في دفعة واحدة كان مطلقا لغير السنة . ومنها أن ما دون الثلاث ثبت مع الرجعة ، وأنه إذا طلق ثنتين في الحيض وقعتا ، وإن نسخ الزيادة على الثلاث . ولم تتعرض الآية للوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق ، وسنتكلم على ذلك في مكان ذكره ، إن شاء الله تعالى . وقسموا هذا الطلاق إلى : واجب ، ومحظور ، ومسنون ، ومكروه ، ومباح ، وهذا من علم الفقه ، فنتكلم عليه في كتبه . وظاهر الآية العموم ؛ فيدخل في الطلاق : الحر والعبد ، فيكون حكمهما سواء ، ونقل أبو بكر الرازي اتفاق السلف وفقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين ينفصلان بالثنتين ، ولا يحل له بعدهما إلا بعد زوج . وروي عن ابن عباس ما يخالف شيئا من هذا ، وهو أن أمر العبد في الطلاق إلى المولى . واختلفوا إذا كان أحدهما حرا والآخر رقيقا ، فقيل : الطلاق بالنساء ؛ فلو كانت حرة تحت عبد أو حر فطلاقها ثلاث ، أو أمة تحت حر أو عبد فطلاقهما ثنتان ، وبه قال أبو علي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والثوري ، والحسن بن صالح . وقيل : الطلاق بالرجال ، فلو كانت أمة تحت حر فطلاقها ثلاث ، أو حرة تحت عبد فطلاقها ثنتان ، وبه قال عمر ، وعثمان البتي . والطلاق مصدر طلقت المرأة طلاقا ، ويكون بمعنى التطليق ، كالسلام بمعنى التسليم ، وهو مبتدأ ، ومرتان خبره ، وهو على حذف مضاف ، أي : عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة ، أو الطلاق الشرعي المسنون مرتان ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف حتى يكون الخبر هو المبتدأ ، و ( مرتان ) تثنية حقيقة ؛ لأن الطلاق الرجعي أو المسنون - على اختلاف القولين - عدده هو مرتان على التفريق ، وقد بينا كونه يكون على التفريق . وقال الزمخشري : ولم يرد بالمرتين التثنية [ ص: 193 ] والتكرير كقوله تعالى : ( ثم ارجع البصر كرتين ) ، أي : كرة بعد كرة ، لا كرتين اثنتين ، ونحو ذلك من التتالي التي يراد بها التكريرة ، قولهم : لبيك ، وسعديك ، وحنانيك ، وهذاذيك ، ودواليك . انتهى كلامه . وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك ، ومخالف لما في نفس الأمر . أما مناقضته فإنه قال في تفسير " الطلاق مرتان " : أي : التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق ، دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ؛ فقوله : " تطليقة بعد تطليقة " مناقض في الظاهر لقول : " ولم يرد بالمرتين التثنية " ؛ لأنك إذا قلت ضربتك ضربة بعد ضربة ، إنما يفهم من ذلك الاقتصار على ضربتين ، وهو مساو في الدلالة لقولك " ضربتك ضربتين " ؛ ولأن قولك " ضربتين " لا يمكن وقوعهما إلا ضربة بعد ضربة . وأما مخالفته لما في نفس الأمر ، فليس هذا من التثنية التي تكون للتكرير ؛ لأن التثنية التي يراد بها التكرير لا يقتضي بتكريرها ثنتين ولا ثلاث ، بل يدل على التكرير مرارا ؛ فقولهم : " لبيك " معناه : إجابة بعد إجابة فما زاد ، وكذلك أخواتها ، وكذلك قوله : " كرتين " ، معناه : ثم ارجع البصر مرارا كثيرة ، والتثنية في قوله : ( الطلاق مرتان ) إنما يراد بها شفع الواحد ، وهو الأصل في التثنية ، ألا ترى أنه لا يراد هنا بقوله : ( مرتان ) ما يزيد على الثنتين ؛ لقوله بعد : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) هي الطلقة الثالثة ؟ ولذلك جاء بعد : ( فإن طلقها ) ، أي : فإن سرحها الثالثة ، وإذا تقرر هذا ؛ فليس قوله ( مرتان ) دالا على التكرار الذي لا يشفع ، بل هو مراد به شفع الواحد ، وإنما غر الزمخشري في ذلك صلاحية التقدير بقوله : الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة ؛ فجعل ذلك من باب التثنية التي لا تشفع الواحد ، ومراد بها التكثير ، إلا أنه يعكر عليه أن الأصل شفع الواحد ، وأن التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرار لا يقتصر بها على الثلاث في التكرار ، ولما حمل الزمخشري قوله تعالى : ( مرتين ) على أنه من باب التثنية التي يراد بها التكرير ؛ احتاج أن يتأول قوله تعالى : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) على أنه تخيير لهم ، بعد أن علمهم كيف يطلقون ، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن ، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم . وتحصل من هذا الكلام أن قوله تعالى : ( الطلاق مرتان ) فيه قولان للسلف : أحدهما : أنه بيان لعدد الطلاق الذي للزوج أن يرتجع منه دون تجديد مهر وولي ، وإليه ذهب عروة ، وقتادة ، وابن زيد . والثاني : أنه تعريف سنة الطلاق ، أي : من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة ، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها ، وإما إمساكها محسنا عشرتها ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عباس وغيرهما . قال ابن عطية : والآية تتضمن هذين المعنيين ، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة ، والتزام حقوق الزوجية . انتهى كلامه . وحكى الزمخشري القول الأول فقال : وقيل معناه : الطلاق الرجعي مرتان ؛ لأنه لا رجعة بعد الثلاث ، ( فإمساك بمعروف ) ، أي برجعة ، أو ( تسريح بإحسان ) ، أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة ، أو بأن لا يراجعها مراجعة ، يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها ، وقيل : بأن يطلقها الثالثة . وروي أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين الثالثة ؟ فقال - عليه السلام : ( أو تسريح بإحسان ) . انتهى كلامه . وتفسير التسريح بإحسان ، أن لا يراجعها حتى تبين بالعدة ، هو قول الضحاك ، والسدي . وقوله : أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها ، كلام لا يتضح تركيبه على تفسير قوله : ( أو تسريح بإحسان ) ؛ لأنه يقتضي أن يراجعها مراجعة حسنة مقصودا بها الإحسان والتآلف والزوجية ؛ فيصير هذا قسيم قوله : ( فإمساك بمعروف ) ، فيكون المعنى : فإمساك بمعروف أو مراجعة مراجعة حسنة . وهذا كلام لا يلتئم أن يفسر به : ( أو تسريح بإحسان ) ، ولو فسر به فإمساك بمعروف لكان صوابا . وأما قوله : وقيل بأن يطلقها الثانية ، فهو قول مجاهد ، وعطاء ، [ ص: 194 ] وجمهور السلف ، وعلماء الأمصار . قال ابن عطية : ويقوي هذا القول عندي من ثلاثة وجوه : أولها : أنه روي أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، هذا ذكر الطلقتين ، فأين الثالثة ؟ فقال - عليه السلام : ( هي قوله : ( أو تسريح بإحسان ) ) . والوجه الثاني : أن التسريح من ألفاظ الطلاق ، ألا ترى أنه قد قرئ : " وإن عزموا السراح " ؟ والوجه الثالث : أن فعل تفعيلا ، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل . انتهى كلامه . وهو كلام حسن . والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن " الطلاق " : الألف واللام فيه للعهد ، وهو الطلاق الذي تقدم قبل قوله : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ) ، وهو ما كان الطلاق رجعيا ، وأن قوله : ( مرتان ) بيان لعدد هذا الطلاق ، وأن قوله : ( فإمساك بمعروف ) بالفاء التي هي للتعقيب بعد صدور الطلقتين ووقوعها كناية عن الرد بعد الطلقة الثانية ، وفاء التعقيب تقتضي التعدية ، وأن قوله : ( أو تسريح بإحسان ) صريح في الطلقة الثالثة ؛ لأنه معطوف على ( فإمساك بمعروف ) ، وما عطف على المتعقب بعد شيء لزم فيه أن يكون متعقبا لذلك الشيء ، فجعل له حالتين بعد الطلقتين : إما أن يمسك بمعروف ، وإما أن يطلق بإحسان . إلا أن العطف بأو ينبو عنه الدلالة على هذا المعنى ؛ لأنه يدل على أحد الشيئين ، ويقوى إذ ذاك أن يكون التسريح كناية عن التخلية والترك ؛ لأن المعنى يكون : الطلاق مرتان فبعدهما أحد أمرين : إما الإمساك ، وهو كناية عن الرد ، وإما التسريح ، فيكون كناية عن التخلية ، واستمرار التسريح لا إنشاء التسريح ، وإما أن تدل على إيقاع التسريح بعد الإمساك المعبر به عن الرد ، فإن قدر شرط محذوف وجعل ، فإمساك جوابا لذلك الشرط ، وجعل الإمساك كناية عن استمرار الزوجية ؛ أمكن أن يراد بالتسريح إنشاء الطلاق ، فيكون التقدير : فإن أوقع التطليقتين ورد الزوجة ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ؛ لأن الرد يعتقبه أحد هذين : إما الاستمرار على الزوجية ؛ فيكون بمعروف ، وإما الطلقة الثالثة ؛ ويكون بإحسان . وقال في ( المنتخب ) ما ملخص منه : الطلاق مرتان ، قال قوم : هو مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون [ ص: 195 ] الجمع دفعة واحدة ، وهذا تفسير من قال : الجمع بين الثلاث حرام ، وهو مذهب أبي ، وجماعة من الصحابة . والألف واللام للاستغراق ، والتقدير : كل الطلاق مرتان ، ومرة ثالثة ، وهذا يفيد التفرق ؛ لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق الاجتماع ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر ، والقائلون بهذا قالوا : لو طلقها ثلاثا أو اثنتين ، اختلفوا ، فقال كثير من علماء البيت : لا يقع إلا الواحدة ؛ لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع إدخال لتلك المفسدة في الوجود ، وإنه غير جائز . وقال أبو حنيفة : يقع ما لفظ به بناء على أن النهي لا يدل على الفساد . وقال قوم : هو متعلق بما قبله ، والمعنى : أن الطلاق الرجعي مرتان ، ولا رجعة بعد الثلاث ، وهذا تفسير من جوز الجمع بين الثلاث ، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - وذلك أن الآية قبلها ذكر فيها أن حق المراجعة ثابت للزوج ، ولم يذكر أنه ثابت دائما أو إلى غاية معينة ؛ فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين ، أو كالعام المفتقر إلى المخصص ، فبين ما ثبت فيه الرجعة وهو أن يوجد طلقتان ، وأما الثالثة فلا تثبت الرجعة ؛ فالألف واللام في " الطلاق " للمعهود السابق ، وهو الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة ، ورجح هذا القول بأن قوله : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ) إن كان عاما في كل الأحوال احتاج إلى مخصص ، أو مجملا لعدم بيان شرط تثبت الرجعة عنده افتقر إلى البيان ، فجعلها متعلقة بما قبلها محصل للمخصص أو للمبين فهو أولى من أن يكون كذلك ؛ لأن البيان عن وقت الخطاب - وإن كان جائزا تأخيره - فالأرجح أن لا يتأخر ، وبأن حمله على ذلك يدخل سبب النزول فيه ، وحمله على تنزيل حكم آخر أجنبي يخرجه عنه ، ولا يجوز أن يكون السبب خارجا عن العموم . وقال في ( المنتخب ) أيضا ما ملخص منه : معنى التسريح قبل وقوع الطلقة الثالثة ، وقبل ترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهذا هو الأقرب ؛ لأن الفاء في قوله : ( فإن طلقها ) تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح ، فلو أريد به الثالثة لكان ( فإن طلقها ) طلقة رابعة ، وإنه لا يجوز ؛ ولأن بعده ( ولا يحل لكم أن تأخذوا ) ، والمراد به الخلع ، ومعلوم أنه لا يصح بعد الثلاث ، فإن صح تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتسريح هنا أنها الثالثة ؛ فلا مزيد عليه . انتهى ما قصد تلخيصه من المنتخب . ولا يلزم بما ذكر أن يكون قوله : ( فإن طلقها رابعة ) كما قال ؛ لأنه فرض التسريح واقعا ، وليس كذلك ؛ لأنه ذكر أحد أمرين بعد أن يطلق مرتين : أحدهما : أن يرد ويمسك بمعروف ، والآخر : أن يسرح بعد الرد بإحسان ، فالمعنى أن الحكم أحد أمرين ، ثم قال : فإن وقع أحد الأمرين ، وهو الطلاق ، فحكمه كذا ، فلا يلزم [ ص: 196 ] أن يكون هذا الواقع مغايرا لأحد الأمرين السابقين ، كما تقول : الرأي عندي أن تقيم أو ترحل ، فإن رحلت كان كذا ؛ فلا يدل قوله " فإن رحلت " على أنه رحيل غير المتردد في حصوله ، ولا يدل التردد في الحكم بين الإقامة والرحيل على وقوع الرحيل ؛ لأن المحكوم عليه أحد الأمرين ، ولا يلزم أيضا ما ذكر من ترتب الخلع بعد الثلاث ، وهو لا يصح لما ذكرناه من أن الحكم هو أحد أمرين ، فلا يدل على وقوع الطلاق الثالث ، بل ذكر الخلع قبل ذكر وقوع الطلاق الثالث لأنه بعده ، وهو قوله : ( فإن طلقها ) ، وأيضا لو سلمنا وقوع الطلاق الثالث قبل وقوعه ( ولا يحل لكم أن تأخذوا ) ، لم يلزم أن يكون الخلع بعد الطلاق الثالث ؛ لأن الآية جاءت لتبيين حكم الخلع ، وإنشاء الكلام فيه . وكونها سيقت لهذا المعنى بعد ذكر الطلاق الثالث في التلاوة لا يدل على الترتيب في الوجود ؛ فلا يلزم ما ذكر إلا لو صرح بقيد يقتضي تأخر الخلع في الوجود عن وجود الطلاق الثالث ، وليس كذلك ، فلا يلزم ما ذكره . وارتفاع قوله : ( فإمساك ) على الابتداء ، والخبر محذوف قدره ابن عطية متأخرا تقديره : أمثل وأحسن ، وقدره غيره متقدما ، أي : فعليكم إمساك بمعروف ، وجوز فيه ابن عطية أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : فالواجب إمساك ، و " بمعروف " و " بإحسان " يتعلق كل منهما بما يليه من المصدر ، و " الباء " للإلصاق ، وجوز أن يكون المجرور صفة لما قبله ؛ فيتعلق بمحذوف ، وقالوا : يجوز في العربية ، ولم يقرأ به نصب إمساك أو تسريح على المصدر ، أي : فأمسكوهن إمساكا بمعروف ، أو سرحوهن تسريحا بإحسان .

( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) الآية . سبب النزول أن جميلة بنت عبد الله بن أبي كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه وهو يحبها ، فشكته إلى أبيها فلم يشكها ، ثم شكته إليه ثانية وثالثة وبها أثر ضرب فلم يشكها ، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وشكته إليه وأرته أثر الضرب ، وقالت : لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله لا أعتب عليه في دين ولا خلق ، لكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا ، إني رفعت جانب الخيام فرأيته أقبل في عدة وهو أشدهم سوادا ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها . فقال ثابت : ما لي أحب إلي منها بعدك يا رسول الله ، وقد أعطيتها حديقة تردها علي ، وأنا أخلي سبيلها ، ففعلت ذلك فخلى سبيلها ، وكان أول خلع في الإسلام ، ونزلت الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان ، اقتضى ذلك أن من الإحسان أن يأخذ الزوج من امرأته شيئا مما أعطى ، واستثنى من هذه الحالة قصة الخلع ، فأباح للرجل أن يأخذ منها على ما سنبينه في الآية ، وكما قاله الله تعالى : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) الآية ، والخطاب في " لكم " وما بعده ظاهره أنه للأزواج ؛ لأن الأخذ والإيتاء من الأزواج حقيقة ، فنهوا أن يأخذوا شيئا ؛ لأن العادة جرت بشح النفس وطلبها ما أعطت عند الشقاق والفراق ، وجوزوا أن يكون الخطاب للأئمة والحكام ؛ ليلتئم مع قوله : ( فإن خفتم ) ؛ لأنه خطاب لهم لا للأزواج ، ونسب الأخذ والإيتاء إليهم عند الترافع لأنهم الذين يمضون ذلك . ومن قال إنه للأزواج أجاب بأن الخطاب قد يختلف في الجملتين ، فيفرد كل خطاب إلى من يليق به ذلك الحكم ، ولا يستنكر مثل هذا ، ويكون حمل الشيء على الحقيقة إذ ذاك أولى من حمله على المجاز ، و ( مما آتيتموهن ) ظاهر في عموم ما آتوا على سبيل الصداق أو غيره من هبة ، وقد فسره بعضهم بالصدقات ، واللفظ عام ، و ( شيئا ) إشارة إلى خطر الأخذ منهن ، قليلا كان أو كثيرا ، و ( شيئا ) نكرة في سياق النهي فتعم ، و " مما " متعلق بقوله ( تأخذوا ) أو بمحذوف ؛ فيكون في موضع نصب على الحال من قوله ( شيئا ) ؛ لأنه لو تأخر لكان نعتا له .

( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) ، الألف واللام في يخافا ويقيما عائد على صنفي الزوجين ، وهو من باب الالتفات ؛ لأنه إذا [ ص: 197 ] اجتمع مخاطب وغائب ، وأسند إليهما حكم كان التغليب للمخاطب ، فتقول : أنت وزيد تخرجان ، ولا يجوز يخرجان ، وكذلك مع التكلم نحو : أنا وزيد نخرج ، ولما كان الاستثناء بعد مضي الجملة للخطاب جاز الالتفات ، ولو جرى على النسق الأول لكان : إلا أن تخافوا أن لا تقيموا ، ويكون الضمير إذ ذاك عائدا على المخاطبين وعلى أزواجهم ، والمعنى : إلا أن يخافا - أي صنفا الزوجين - ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من حقوق الزوجية ، بما يحدث من بغض المرأة لزوجها ، حتى تكون شدة البغض سببا لمواقعة الكفر ، كما في قصة جميلة مع زوجها ثابت ، و ( أن يخافا ) ، قيل : في موضع نصب على الحال ، التقدير : إلا خائفين ، فيكون استثناء من الأحوال ، فكأنه قيل : فلا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا في كل حال إلا في حال الخوف أن لا يقيما حدود الله ، وذلك أن : أن مع الفعل بتأويل المصدر ، والمصدر في موضع اسم الفاعل ، فهو منصوب على الحال ، وهذا في إجازته نظر ؛ لأن وقوع المصدر حالا لا ينقاس ، فأحرى ما وقع موقعه ، وهو " أن والفعل " ، ويكثر المجاز ؛ فإن الحال إذ ذاك يكون " أن والفعل " الواقعان موقع المصدر الواقع موقع اسم الفاعل . وقد منع سيبويه وقوع " أن والفعل " حالا ، نص على ذلك في آخر : هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات . والذي يظهر أنه استثناء من المفعول له ، كأنه قيل : ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب ، إلا بسبب خوف عدم إقامة حدود الله ؛ فذلك هو المبيح لكم الأخذ ، ويكون حرف العلة قد حذف مع " أن " ، وهو جائز فصيحا كثيرا ، ولا يجيء هنا - خلاف الخليل وسيبويه - أنه إذا حذف حرف الجر من " أن " هل ذلك في موضع نصب أو في موضع جر ؟ بل هذا في موضع نصب ؛ لأنه مقدر بالمصدر ، والمصدر لو صرح به كان منصوبا ، واصلا إليه العامل بنفسه ، فكذلك هذا المقدر به ، وهذا الذي ذكرناه من أن " أن والفعل " إذا كانا في موضع المفعول من أجله ؛ فالموضع نصب لا غير ، منصوص عليه من النحويين ، ووجهه ظاهر .

ومعنى الخوف هنا الإيقان ، قاله أبو عبيدة . أو العلم ، أي : إلا أن يعلما ، قاله ابن سلمة ، وإياه أراد أبو محجن بقوله :


أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها



ولذلك رفع الفعل بعد " أن " ، أو " الظن " ، قاله الفراء . وكذلك قرأ أبي : " إلا أن يظنا " ، وأنشد :


أتاني كلام من نصيب بقوله     وما خفت يا سلام أنك عايبي



والأولى بقاء الخوف على بابه ، وهو أن يراد به الحذر من الشيء ، فيكون المعنى : إلا أن يعلم ، أو يظن ، أو يوقن ، أو يحذر ، كل واحد منهما بنفسه ، أن لا يقيم حقوق الزوجية لصاحبه حسبما يجب ، فيجوز الأخذ . وقرأ عبد الله : " إلا أن يخافوا أن لا يقيموا حقوق " ، أي إلا أن يخاف الأزواج والزوجات ، وهو من باب الالتفات ؛ إذ لو جرى عليه النسق الأول لكان بالتاء ، وروي عن عبد الله أنه قرأ أيضا : ( إلا أن تخافوا ) بالتاء . وقرأ حمزة ، ويعقوب ، ويزيد بن القوقاع : " إلا أن يخافوا " بضم الياء ، مبنيا للمفعول ، والفاعل المحذوف : الولاة . و ( أن لا يقيما ) : في موضع رفع بدل من الضمير ، أي : إلا أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله ، وهو بدل اشتمال ، كما تقول : الزيدان أعجباني حسنهما ، والأصل : ( إلا أن يخافوا ) أنها الولاة ، عدم إقامتهما حدود الله . وقال ابن عطية : في قراءة يخافا بالضم ، أنها تعدت خاف إلى مفعولين : أحدهما أسند الفعل إليه ، والآخر بتقدير حرف جر بمحذوف ، فموضع أن خفض الجار المقدر عند سيبويه ، والكسائي . ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار المقدر وصل الفعل إلى المفعول الثاني ، مثل : أستغفر الله ذنبا ، وأمرتك الخير . انتهى كلامه . وهو نص كلام أبي علي الفارسي ، نقله من كتابه ، إلا التنظير بأستغفر ، وليس بصحيح تنظير ابن عطية خاف بأستغفر ؛ لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين ، كأستغفر الله ، ولم يذكر ذلك [ ص: 198 ] النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين وأصل أحدهما بحرف الجر ، بل إذا جاء : خفت زيدا ضربه عمرا ، كان ذلك بدلا ؛ إذ من ضربه عمرا كان مفعولا من أجله ، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان ، وقد وهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه ، والذي نقله أبو علي وغيره أن مذهب سيبويه أن الموضع بعد الحذف نصب ، وبه قال الفراء ، وأن مذهب الخليل أنه جر ، وبه قال الكسائي . وقدر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف " على " ، فقال : والتقدير إلا أن يخافا على أن يقيما ، فعلى هذا يمكن أن يصح قول علي وفيه بعد . وقد طعن في هذه القراءة من لا يحسن توجيه كلام العرب ، وهي قراءة صحيحة مستقيمة في اللفظ وفي المعنى ، ويؤيدها قوله بعد : ( فإن خفتم ) ؛ فدل على أن الخوف المتوقع هو من غير الأزواج ، وقد اختار هذه القراءة أبو عبيد . قال أبو جعفر الصفار : ما علمت في اختيار حمزة أبعد من هذا الحرف ؛ لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى ، أما الإعراب : فإن يحتج له بقراءة عبد الله بن مسعود : " إلا أن يخافوا أن لا يقيموا " ، فهو في العربية ؛ إذ ذاك لما لم يسم فاعله ، فكان ينبغي أن لو قيل : إلا أن يخافا أن لا يقيما . وقد احتج الفراء لحمزة ، وقال : إنه اعتبر قراءة عبد الله : " إلا أن يخافوا " ، وخطأه أبو علي ، وقال : لم يصب ؛ لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على " أن " ، وفي قراءة حمزة واقع على الرجل والمرأة ، وأما اللفظ ؛ فإن كان صحيحا فالواجب أن يقال : فإن خيفا ، وإن كان على لفظ " فإن " وجب أن يقال : إلا أن يخافوا . وأما المعنى : فإنه يبعد أن يقال : لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخاف غيركم ، ولم يقل جل وعز : فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية ؛ فيكون الخلع إلى السلطان ، وقد صح عن عمر وعثمان أنهما أجازا الخلع بغير سلطان . انتهى كلام الصفار . وما ذكره لا يلزم ، وتوجيه قراءة الضم ظاهر ؛ لأنه لما قال : ( ولا يحل لكم ) وجب على الحكام منع من أراد أن يأخذ شيئا من ذلك ، ثم قال : ( إلا أن يخافا ) ، الضمير للزوجين ، والخائف محذوف ، وهم : الولاة والحكام ، والتقدير : إلا حين يخاف الأولياء الزوجين أن لا يقيما حدود الله ، فيجوز الافتداء ، وتقدم تفسير الخوف هنا .

وأما قوله : فوجب أن يقال : فإن خيفا فلا يلزم ؛ لأن هذا من باب الالتفات ، وهو في القرآن كثير ، وهو من محاسن العربية ، ويلزم من فتح الياء أيضا على قول الصفار أن يقرأ : ( فإن خافا ) ، وإنما هو في القراءتين على الالتفات ، وأما تخطئة الفراء فليست صحيحة ؛ لأن قراءة عبد الله : ( إلا أن يخافوا ) دلالة على ذلك ؛ لأن التقدير : إلا أن يخافوهما أن لا يقيما ، والخوف واقع في قراءة حمزة على " أن " ؛ لأنها في موضع رفع على البدل من ضميرهما ، وهو بدل الاشتمال كما قررناه قبل ، فليس على ما تخيله أبو علي ، وذلك كما تقول : خيف زيد شره . وأما قوله : يبعد من جهة المعنى ، فقد تقدم الجواب عنه ، وهو أن لهما المنع من ذلك ، فمتى ظنوا أو أيقنوا ترك إقامة حدود الله ؛ فليس لهم المنع من ذلك ، وقد اختار أبو عبيدة قراءة الضم لقوله تعالى : " فإن خفتم " ؛ فجعل الخوف لغير الزوجين ، ولو أراد الزوجين لقال : فإن خافا . وقد قيل : إن قوله : ( ولا يحل لكم ) إلى آخره ، جملة معترضة بين قوله : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ، وبين قوله : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد ) .

( فإن خفتم ) : الضمير للأولياء أو السلطان ، فإن لم يكونوا [ ص: 199 ] فلصلحاء المسلمين ، وقيل : عائد على المجموع من قام به أجزأ . ( ألا يقيما حدود الله ) ، وترك إقامة الحدود هو ظهور النشوز وسوء الخلق منها ، قاله ابن عباس ، ومالك ، وجمهور الفقهاء . أو عدم طواعية أمره وإبرار قسمه ، قاله الحسن ، والشعبي . وإظهار حال الكراهة له بلسانها ، قاله عطاء . وعلى هذه الأقوال الثلاثة قيل : تكون التثنية أريد بها الواحد ، أو كراهة كل منهما صاحبه ، فلا يقيم ما أوجب الله عليه من حق صاحبه ، قاله طاوس ، وابن المسيب . وعلى هذا القول التثنية على بابها . وروي أن امرأة نشزت على عهد عمر ، فبيتها في اصطبل في بيت الزبل ثلاث ليال ، ثم دعاها ، فقال : كيف رأيت مكانك ؟ فقالت : ما رأيت ليالي أقر لعيني منها ، وما وجدت الراحة مذ كنت عنده إلا هذه الليالي . فقال عمر : هذا وأبيكم النشوز ، وقال لزوجها اخلعها ولو من قرطها ، اختلعها بما دون عقاص رأسها ، فلا خير لك فيها .

( فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) ، هذا جواب الشرط ، قالوا : وهو يقتضي مفهومه أن الخلع لا يجوز إلا بحضور من له الحكم من سلطان أو ولي ، وخوفه ترك إقامة حدود الله ، وما قالوه من اقتضاء المفهوم ، وجود الخوف صحيح ، أما الحضور فلا . وظاهر قوله : ( ولا يحل لكم ) - إذا كان خطابا للأزواج - أنه لا يشترط ذلك ، وخص الحسن الخلع بحضور السلطان ، والضمير في " عليهما " عائد على الزوجين معا ، أي : لا جناح على الزوج فيما أخذه ، ولا على الزوجة فيما افتدت به . وقال الفراء : " عليهما " ، أي : عليه ، كقوله : ( يخرج منهما ) ، أي : المالح ، و ( نسيا حوتهما ) ، والناسي يوشع ، قال الشاعر :


فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر     وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا



وظاهر قوله : ( فيما افتدت به ) العموم بصداقها ، وبأكثر منه ، وبكل ما لها ، قاله عمر ، وعثمان ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والنخعي ، والحسن ، وقبيصة بن ذؤيب ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وقضى بذلك عمر . وقيل : فيما افتدت به من الصداق وحده من غير زيادة منه ، قاله علي ، وطاوس ، وعمرو بن شعيب ، وعطاء ، والزهري ، وابن المسيب ، والشعبي ، والحسن ، والحكم ، وحماد ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن الربيع ، وكان يقرأ هو والحسن : " فيما افتدت به منه " ، بزيادة " منه " ، يعني : مما آتيتموهن ، وهو المهر ، وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة . وقيل : ببعض صداقها ، ولا يجوز بجميعه إذا دخل بها ؛ حتى يبقى منه بقية ليكون بدلا عن استمتاعه بها . وظاهر قوله : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ) ، تشريكهما في ترك إقامة الحدود ، وأن جواز الأخذ منوط بوجود ذلك منهما معا . وقد حرم الله على الزوج أن يأخذ إلا بعد الخوف أن لا يقيما حدود الله ، وأكد التحريم بقوله : ( فلا تعتدوها ) ، ثم توعد على الاعتداء ، وأجمع عامة أهل العلم على تحريم أخذ مالها ، إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها ، قال ابن المنذر : روينا معنى ذلك عن ابن عباس ، والشعبي ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، وابن سيرين ، والقاسم ، وعروة ، وحميد بن عبد الرحمن ، وقتادة ، والثوري ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي ثور . وقال مالك ، والشعبي ، وغيرهما : إن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج ، وتفاقم ما بينهما ؛ فالفدية جائزة للزوج . قال أبو محمد بن عطية : ومعنى ذلك أن يكون الزوج ، لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي ، وأما إن انفرد الزوج بالفساد ؛ فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا جاء الظلم والنشوز من قبله ، فخالعته ، فهو جائز ماض ، وهو آثم لا يحل ما صنع ، ولا يرد ما أخذ ، وبه قال أصحابه : أبو يوسف ، ومحمد ، وزفر . وقال مالك : يمضي الطلاق إذ ذاك ، ويرد عليها مالها . وقال الأوزاعي في من خالع امرأته وهي مريضة : إن كانت ناشزة كان في ثلثها ، أو غير ناشزة رد عليها ، وله عليها الرجعة ، قال : ولو اجتمعا على فسخ النكاح قبل البناء منها ، ولم يبن منها نشوز ؛ لم أر بذلك بأسا . وقال الحسن بن صالح ، وعثمان البتي : إن كانت [ ص: 200 ] الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها ، أو من قبلها فله ذلك على ما تراضيا عليه . وظاهر الآية أنه إذا لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على الفراق . وشذ بكر بن عبد الله المزني ، فقال : لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجته شيئا خلعا ، لا قليلا ولا كثيرا ، قال : وهذه الآية منسوخة بقوله : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ) الآية ، وضعف قوله بإجماع الأمة على إجازة الفدية ، وبأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال . واختلفوا : هل يندرج تحت عموم قوله : ( فيما افتدت به ) الضرر والمجهول ، كالتمر الذي لم يبد صلاحه ، والجمل الشارد ، والعبد الآبق ، والجنين في البطن ، وما يثمره نخلها ، وما تلده غنمها ، وإرضاع ولدها منه ؟ وكل هذا وما فرعوا عليه مذكور في كتب الفقه . قالوا : وظاهر قوله : ( فيما افتدت به ) أن الخلع فسخ إذا لم ينو به الطلاق ؛ لقوله بعد : ( فإن طلقها ) ، وأجمعوا على أن هذه هي الثالثة ، فلو كان الخلع قبلها طلاقا لكانت رابعة ، وهو خلاف الإجماع ، قاله ابن عباس ، وطاوس ، وعكرمة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . وروي عن علي ، وعثمان ، وابن مسعود ، وجماعة من التابعين : أنه طلاق ، وبه قال الجمهور : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي . ولا يدل ظاهرها على أن الخلع فسخ كما ذكروا ؛ لأن الآية إنما جيء بها لبيان أحكام الخلع ، من غير تعرض له ، أهو فسخ أم طلاق ؟ فلو نوى تطليقتين أو ثلاثا ، فقال مالك : هو ما نوى . وقال أبو حنيفة : إن نوى ثلاثا فثلاثا ، أو اثنتين فواحدة بائنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية