الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 235 ] مقدمة

              بسم الله الرحمن الرحيم

              وصلى الله على محمد وآل محمد وسلم، رب يسر .

              أخبرنا الشيخ ، الإمام ، ناصر السنة ، أبو الحسن علي بن عبيد الله بن نصر الزاغوني ، أحسن الله توفيقه ؛ قال : أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن البسري ؛ قال : أخبرنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة إجازة ، قال : " الحمد لله ، أهل الحمد ووليه ، المنان ، الجواد ، الذي ثوابه جزل ، وعطاؤه فضل ، وأياديه متتابعة ، ونعماؤه سابغة ، وإحسانه متواتر ، وحكمه عدل ، وقوله فصل ، حصر الأشياء في قدرته ، وأحاط بها علمه ونفذت فيها مشيئته ، وصلى الله على خير خلقه محمد النبي وآله وسلم .

              أما بعد يا إخواني ؛ وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها ، وأرشد السبل وأسواها ، فهي طريق الحق التي اختارها وارتضاها ، واعلموا أن طريق الحق أقصد الطرق ، ومناهجه أوضح المناهج ، وهي ما أنزله الله في كتابه وجاءت به رسله ، ولم يكن رأيا متبعا ولا هوى مبتدعا ولا إفكا مخترعا ، وهو الإقرار لله بالملك والقدرة والسلطان ، وأنه هو المستولي على الأمور ، سابق العلم بكل كائن ، ونافذ المشيئة فيما يريد ، كان الخلق كله وكل ما هو فيه بقضاء [ ص: 236 ] وتدبير ، ليس معه شريك ولا دونه مدبر ولا له مضاد ، بيده تصاريف الأمور ، وهو الآخذ بعقد النواصي ، والعالم بخفيات القلوب ومستورات الغيوب ، فمن هداه بطول منه ؛ اهتدى ، ومن خذله ؛ ضل بلا حجة ولا عذر ، خلق الجنة والنار وخلق لكل واحدة منهما أهلا هم ساكنوها ؛ أحصاهم عددا ، وعلم أعمالهم وأفعالهم ، وجعلهم شقيا وسعيدا ، وغويا ورشيدا ، وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة ، وقدر أعمالهم ، وقسم أرزاقهم ، وأحصى آجالهم ، وعلم أعمالهم ، فكل أحد يسعى في رزق مقسوم وعمل محتوم إلى أجل معلوم ، قد علم ما تكسب كل نفس قبل أن يخلقها ؛ فلا محيص لها عما علمه منها ، وقدر حركات العباد وهممهم وهواجس قلوبهم وخطرات نفوسهم ، فليس أحد يتحرك حركة ولا يهم همة إلا بإذنه ، وخلق الخير والشر ، وخلق لكل واحد منهما عاملا يعمل به ، فلا يقدر أحد أن يعمل إلا لما خلق له ، وأراد قوما للهدى ، فشرح صدورهم للإيمان وحببه إليهم وزينه في قلوبهم ، وأراد آخرين للضلال ؛ فجعل صدورهم ضيقة حرجة ، وجعل الرجاسة عليهم ، وأمر عباده بأوامر ، وفرض عليهم فرائض ؛ فلن يؤدوها إليه إلا بتوفيقه ومعونته ، وحرم محارم وحد حدودا ؛ فلن يكفوا عنها إلا بعصمته ؛ فالحول والقوة له ، وواقعة [ ص: 237 ] عليهم حجته ، غير معذورين فيما بينهم وبينه ، يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فلم يزل الصدر الأول على هذا جميعا على ألفة القلوب واتفاق المذاهب ، كتاب الله عصمتهم ، وسنة المصطفى إمامهم ، لا يستعملون الآراء ولا يفزعون إلى الأهواء ، فلم يزل الناس على ذلك ، والقلوب بعصمة مولاها محروسة ، والنفوس عن أهوائها بعنايته محبوسة حتى حان حين من سبقت له الشقوة وحلت عليه السخطة ، وظهر الذين كانوا في علمه مخذولين ، وفي كتابه السابق أنهم إلى أعدائهم من الشياطين مسلمون ، ومن الشياطين عليهم مسلطون ، فحينئذ دب الشيطان بوسوسته ، فوجد مساغا لبغيته ، ومركبا وطيا إلى ظفره بحاجته ، فسكن إليه المنقاد إلى الشبهات والسالك في بليات الطرقات ، فاتخذها دليلا وقائدا ، وعن الواضحة حائدا ، طالب رياسة ، وباغي فتنة ، معجب برأيه وعابد لهواه ، عليه يرد وعنه يصدر ، قد نبذ الكتاب وراء ظهره ، فلم يستشهده ولم يستشره ، ففي آذانهم وقر وهو عليهم عمى ، كأنهم إلى كتاب الله لم يندبوا ، وعن طاعة الشيطان لم يزجروا ، فهم عن سبيل من أرشده الله متباعدون ، ولأهوائهم في كل ما يأتون ويذرون متبعون ، واستحوذ الشيطان على من لم يشرح الله صدره للإسلام ، وأورده بحار العمى ؛ فهم في حيرة يترددون ، فجاروا عن سواء السبيل ؛ فقالوا [ ص: 238 ] بيد الشيطان من أمر الخلق ما لا يجوز أن يكون بيد الله ، ومشيئته فيهم حائلة تدون مشيئة الله لهم ؛ فضعفوا أمر الله ووهنوه ، وردوا كتاب الله وكذبوه ، وقووا من أمر الشيطان ما ضعفه الله حين قال إن كيد الشيطان كان ضعيفا ، وقد كان سلفنا وأئمتنا رحمة الله عليهم يكرهون الكلام في القدر ، وينهون عن خصومة أهله ومواضعتهم القول أشد النهي ، ويتبعون في ذلك السنة وآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية