الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              1308 - حدثنا أبو عبد الله أحمد بن علي بن العلاء الجوزجاني ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن الحكم الوراق ، (ح) ، وحدثنا إسماعيل بن محمد الصفار ، قال : حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي ، قالا جميعا : حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، قال : " سمعت ابن عباس ، يقول : كلام القدرية وكلام الحرورية ضلالة ، وكلام الشيعة هلكة ، قال : وقال ابن عباس : ولا أعرف الحق (أو قال : ولا أعلم الحق) إلا في كلام قوم ألجؤوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله ، ولم يقطعوا بالذنوب العصمة من الله ، وفوضوا أمرهم إلى الله ، وعلموا أن كلا بقدر الله . [ ص: 287 ]

              قال الشيخ : فاعلموا رحمكم الله أن هذه طريقة الأنبياء عليهم السلام ، وبذلك تعبدهم الله ، وأخبر به عنهم في كتابه أن المشيئة لله عز وجل وحده ، ليس أحد يشاء لنفسه شيئا من خير وشر ونفع وضر وطاعة ومعصية ، إلا أن يشاءها الله ، وبالتبري إليه من مشيئتهم ومن حولهم وقوتهم ومن استطاعتهم ، بذلك أخبر عن نوح عليه السلام حين قال له قومه يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ؛ فقال نوح عليه السلام مجيبا لهم إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون .

              قال الشيخ : فلو كان الأمر كما تزعم القدرية ، كانت الحجة قد ظهرت على نوح من قومه ، ولقالوا له : إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا ، فلم أرسلك إلينا ، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا ؟

              ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه ، وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه ، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده ، فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنيا عليه وراضيا بذلك من قوله ؟

              وقال شعيب عليه السلام : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل [ ص: 288 ] شيء علما .

              ثم قال شعيب في موضع آخر وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

              وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون .

              وقال أيضا فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام .

              وقال فيما أخبر عن يوسف عليه السلام (ولجئه) إلى ربه ، وخوفه الفتنة على نفسه إن لم يكن هو المتولي لعصمته رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ، قال الله عز وجل فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم . [ ص: 289 ]

              ثم أخبرنا تعالى أن العصمة في البداية وإلهامه إياه الدعوة كانت بالعناية من مولاه الكريم به ، فقال ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين .

              وقال عز وجل فيما أخبر عن موسى حين دعا على فرعون وقومه بأن لا يؤمنوا وعن استجابته له وإعطائه ما سأل ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال الله تعالى قد أجيبت دعوتكما فاستقيما .

              وقال فيما أعلمه لنوح بكفر قومه وتكذيبهم له : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون .

              وقال تعالى فيما أخبر عن أهل النار واعترافهم بأن الهداية من الله عز وجل فقال : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم .

              فاعترفوا أهل النار بأن الله عز وجل منعهم الهداية ، وأنه لو هداهم [ ص: 290 ] اهتدوا ، فاسمعوا رحمكم الله إلى كتاب ربكم ، وانظروا ، هل تجدون فيه مطمعا لما تدعيه القدرية عليه من نفي القدرة والمشيئة والإرادة عنه ، وإضافة القدرة والمشيئة إلى أنفسهم ، وتفهموا قول الأنبياء لقومهم وكلام أهل النار واعتذار بعضهم إلى بعض بمنع الله الهداية لهم ، والله عز وجل يحكي ذلك كله عنهم غير مكذب لهم ولا راد ذلك عليهم .

              واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل أرسل رسله مبشرين ومنذرين وحجة على العالمين ، فمن شاء الله تعالى له الإيمان ؛ آمن ، ومن شاء الله أن يكفر ؛ كفر ، فلم يجب الرسل إلى دعوتهم ولم يصدقهم برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مرحوم مؤمن ، ولم يكذبهم ويرد ما جاؤوا به إلا من قد سبق في علم الله أنه شقي كافر ، وعلى ذلك جميع أحوال العباد صغيرها وكبيرها ، كلها مثبتة في اللوح المحفوظ والرق المنشور قبل خلق الخلق ، فالأنبياء ليس يهتدي [ ص: 291 ] بدعوتهم ولا يؤمن برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مؤمن بهم ، ولقد حرص الأنبياء وأحبوا الهداية والإيمان لقوم من أهاليهم وآبائهم وأبنائهم ، وذوي أرحامهم ، فما اهتدى منهم إلا من كتب الله له الهداية والإيمان ، ولقد عوتبوا في ذلك بأشد العتب ، وحسبك بقول نوح عليه السلام رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ، وبجواب الله عز وجل فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين .

              ثم أخبرنا بجملة دعوة المسلمين ، وبماذا كانت الإجابة من قومهم أجمعين ، فقال عز وجل في سورة النحل ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين .

              ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم في حرصه على هداية قومه بقوله إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ، فمن خذله الله بالمعصية ، فمن ذا الذي نصره بالطاعة ؟ ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين . [ ص: 292 ]

              وقال له أيضا قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون .

              وقال عز وجل وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء .

              فكل هذا يدل العقلاء ، ويؤمن المؤمنون من عباد الله والعلماء أن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين حجة على العالمين ، وأن من شاء الله له الإيمان ؛ آمن ، ومن لم يشأ له الإيمان ؛ لم يؤمن ، وأن ذلك كله مفروغ منه ، قد علم ربنا عز وجل المؤمن من الكافر ، والمطيع من العاصي ، والشقي من السعيد ، وكتب لقوم الإيمان بعد الكفر ؛ فآمنوا ، ولقوم الكفر بعد الإيمان ؛ فكفروا ، والطاعة بالتوبة بعد المعصية ؛ فتابوا ، وعلى آخرين الشقوة ؛ فكفروا ، فماتوا على كفرهم وكل ذلك في إمام مبين .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية