الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان علامات حسن الخلق .

اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه ، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه ، واستغنى عن المجاهدة فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق ، فإن حسن الخلق هو الإيمان ، وسوء الخلق هو النفاق . وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق فلنورد ، جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق ، قال الله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون إلى قوله : أولئك هم الوارثون وقال عز وجل التائبون العابدون الحامدون إلى قوله : وبشر المؤمنين ، وقال عز وجل إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى قوله : أولئك هم المؤمنون حقا وقال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما إلى آخر السورة من أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق وفقد جميعها علامة سوء الخلق ، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض ، فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة ، وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وقال عليه السلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه .

وقال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره وقال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت .

وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق فقال صلى الله عليه وسلم : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وقال صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه ، فإنه يلقن الحكمة .

وقال - - : من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن وقال - - : لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه وقال صلى الله عليه وسلم - : لا يحل لمسلم أن يروع مسلما وقال صلى الله عليه وسلم - : إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله عز وجل فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكرهه وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال هو : أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان قليل الكلام كثير العمل قليل الزلل قليل الفضول برا وصولا وقورا صبورا شكورا رضيا حليما رفيقا عفيفا شفيقا لا لعانا ولا سبابا ولا نماما ولا مغتابا ولا عجولا ولا حقودا ولا بخيلا ولا حسودا بشاشا هشاشا يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله ، فهذا هو حسن الخلق ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامة المؤمن والمنافق فقال : " إن المؤمن همته في الصلاة والصيام والعبادة والمنافق ، همته في الطعام والشراب كالبهيمة " وقال حاتم الأصم المؤمن مشغول بالفكر والعبر والمنافق مشغول بالحرص والأمل والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله والمنافق راج كل أحد إلا الله ، والمؤمن آمن من كل أحد إلا من الله ، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله ، والمؤمن يقدم ماله دون دينه والمنافق يقدم دينه دون ماله والمؤمن يحسن ويبكي والمنافق يسيء ويضحك والمؤمن يحب الخلوة والوحدة والمنافق يحب الخلطة والملأ والمؤمن يزرع ويخشى الفساد والمنافق يقلع ويرجو الحصاد والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد .

وأولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفاء ومن شكا من سوء خلق غيره دل ذلك على سوء خلقه فإن حسن الخلق احتمال الأذى ، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يمشي ومعه أنس فأدركه أعرابي فجذبه جذبا شديدا وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية ، قال أنس رضي الله عنه : حتى نظرت إلى عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه فقال ، يا محمد ، هب لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك - ، ثم أمر بإعطائه ولما أكثرت قريش إيذاءه وضربه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون قيل إن هذا يوم أحد ، فلذلك أنزل الله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم ويحكى أن إبراهيم بن أدهم خرج يوما إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي فقال : أنت عبد قال ؟ : نعم فقال له : أين العمران ? فأشار إلى المقبرة فقال الجندي : إنما أردت العمران ، فقال : هو المقبرة ، فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا : ما الخبر ؟ فأخبرهم الجندي ما قال له ، فقالوا : هذا إبراهيم بن أدهم ، فنزل الجندي عن فرسه وقبل يديه ورجليه ، وجعل يعتذر إليه ، فقيل بعد ذلك له : لم قلت له : أنا عبد فقال ؟ : إنه لم يسألني عبد من أنت ? بل قال : أنت عبد ? فقلت : نعم ، لأني عبد الله ، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة قيل كيف وقد ظلمك ؟ فقال : علمت أنني أوجر على ما نالني منه فلم أرد يكون نصيبي منه الخير ، ونصيبه مني الشر .

ودعي ، أبو عثمان الحيري إلى دعوة وكان الداعي قد أراد تجربته فلما بلغ منزله قال له : ليس لي وجه ، فرجع أبو عثمان ، فلما ذهب غير بعيد دعاه ثانيا فقال له يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان فقال له مثل مقالته الأولى ، فرجع ، ثم دعاه الثالثة وقال: ارجع على ما يوجب الوقت، فرجع فلما بلغ الباب قال له مثل مقالته الأولى فرجع أبو عثمان ثم جاءه الرابعة فرده حتى عامله بذلك مرات ، وأبو عثمان لا يتغير من ذلك فأكب على رجليه وقال يا أستاذ إنما أردت أن أختبرك ، فما أحسن خلقك ، فقال إن : الذي رأيت مني هو خلق الكلب إن الكلب إذا دعي أجاب ، وإذا زجر انزجر وروي عنه أيضا أنه اجتاز يوما في سكة فطرحت عليه إجانة رماد فنزل عن دابته فسجد سجدة الشكر ثم جعل ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئا فقيل ألا زبرتهم فقال : إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب وروي أن علي بن موسى الرضا رحمة الله عليه كان لونه يميل إلى السواد ؛ إذ كانت أمه سوداء وكان بنيسابور حمام على باب داره ، وكان إذا أراد دخول الحمام فرغه له الحمامي فدخل ذات يوم فأغلق الحمامي الباب ومضى في بعض حوائجه ، فتقدم رجل رستاقي إلى باب الحمام ففتحه ودخل فنزع ثيابه ودخل ، فرأى علي بن موسى الرضا ، فظن أنه بعض خدام الحمام ، فقال له : قم واحمل إلي الماء ، فقام علي بن موسى وامتثل جميع ما كان يأمره به ، فرجع الحمامي فرأى ثياب الرستاقي وسمع كلامه مع علي بن موسى الرضا ، فخاف وهرب وخلاهما ، فلما خرج علي بن موسى سأل عن الحمامي فقيل له : إنه خاف مما جرى فهرب قال : لا ينبغي له أن يهرب ، إنما الذنب لمن وضع ماءه عند أمة سوداء وروي أن أبا عبد الله الخياط كان يجلس على دكانه وكان له حريف مجوسي يستعمله في الخياطة فكان ، إذا خاط له شيئا حمل إليه دراهم زائفة فكان أبو عبد الله يأخذ منه ولا يخبره بذلك ولا يردها عليه ، فاتفق يوما أن أبا عبد الله قام لبعض حاجته فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهما زائفا فلما نظر إليه التلميذ عرف أنه زائف فرده عليه ، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال بئس ما عملت هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئلا يغر بها مسلما وقال يوسف بن أسباط علامة حسن الخلق عشر خصال : قلة الخلاف وحسن الإنصاف وترك طلب العثرات وتحسين ما يبدو من السيئات والتماس المعذرة واحتمال الأذى والرجوع بالملامة على النفس ، والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره ، وطلاقة الوجه للصغير والكبير ، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه وسئل سهل عن حسن الخلق فقال أدناه احتمال الأذى وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه .

وقيل : للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم ؟ فقال : من قيس بن عاصم قيل وما بلغ : من حلمه ؟ قال : بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فمات ، فدهشت الجارية ، فقال لها : لا روع عليك ، أنت حرة لوجه الله تعالى فقيل أن أويسا القرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة فكان يقول لهم : يا إخوتاه إن كان ولا بد فارموني بالصغار حتى لا تدموا ساقي فتمنعوني عن الصلاة وشتم رجل الأحنف بن قيس وهو لا يجيبه وكان يتبعه ، فلما قرب من الحي وقف وقال : إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله كي لا يسمعك بعض سفهاء الحي فيؤذوك وروي أن عليا كرم الله وجهه دعا غلاما فلم يجبه فدعاه ثانيا وثالثا فلم يجبه ، فقام إليه فرآه مضطجعا فقال : أما تسمع يا غلام قال ؟ : بلى قال : فما حملك على ترك إجابتي ؟ قال أمنت : عقوبتك فتكاسلت فقال : امض فأنت حر لوجه الله تعالى وقالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله .

يا مرائي ، فقال : يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة .

وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له : لم تمسكه فقال ؟ : لأتعلم الحلم عليه .

فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة فاعتدلت أخلاقها ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله تعالى وهو منتهى حسن الخلق .

فإن من يكره فعل الله تعالى ولا يرضى به فهو غاية سوء خلقه ، فهؤلاء ظهرت العلامات على ظواهرهم كما ذكرناه .

فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات فلا ينبغي أن يغتر بنفسه ، فيظن بها حسن الخلق ، بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق فإنها درجة رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون .

التالي السابق


(بيان علامات حسن الخلق) *

(اعلم أن كل إنسان فهو جاهل بعيب نفسه ، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي) وهي الظاهرة (ربما ظن نفسه أنه قد هذب نفسه وحسن خلقه ، واستغنى عن المجاهدة) وتم له الأمر في السلوك (فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق ، فإن حسن الخلق هو الإيمان ، وسوء الخلق هو النفاق .

وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين) جميعا في كتابه العزيز (وهي) أي: تلك الصفات (بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق ، فنورد جملة من ذلك لتعلم به حسن الخلق ، فقد قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى قوله: أولئك هم الوارثون وقال) تعالى: ( التائبون العابدون إلى قوله: وبشر المؤمنين ، وقال) تعالى: ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى قوله: أولئك هم المؤمنون حقا وكذلك قال) تعالى: ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما إلى آخر السورة) فهذه الأوصاف المذكورة للمؤمنين وعباده الصالحين، (فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات) هل يجد فيها من هذه الأوصاف شيئا إما كلها أو بعضها (فوجود هذه الصفات علامة حسن الخلق ، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض ، فليشتغل بتحصيل ما فقده) بالرياضة والتكلف (وحفظ ما وجده) عن التغير والتبدل .

(ووصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بصفات كثيرة ، وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال) : " المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم " وقال: " المؤمن يألف ويؤلف " وقال: " المؤمن أخو المؤمن ، يكن عليه ضيعته ، ويحوطه من ورائه ، ولا يدع نصيحته على كل حال " وقال: " المؤمن يغار " وقال: " المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم " . وقال: " المؤمن يسير المؤنة ". وقال: " المؤمن كيس فطن " . وقال: " المؤمن هين لين حتى تخاله من اللين أحمق ". وقال: " المؤمن واه راقع ". وقال: " المؤمن إن ماشيته نفعك ، وإن شاورته نفعك ، وإن شاركته نفعك ، وكل شيء من أمره منفعة " وقال: " المؤمن كالجمل الدنف إن قيد انقاد ، وإن

[ ص: 358 ] أنيخ على صخرة استناخ
" وقال: " يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد في الرأس " . وقال: (المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه) هو في الصحيحين من حديث أنس بلفظ: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، ورواه كذلك ابن المبارك ، والطيالسي ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارمي ، وزاد الخرائطي في مكارم الأخلاق " من الخير " ، وقد رواه ابن عساكر من حديث يزيد القشيري بزيادة: " والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ولا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره شره " (وقال) -صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) متفق عليه من حديث أبي شريح الخزاعي ، ومن حديث أبي هريرة ، ورواه أيضا الطبراني من حديث ابن عمر ، ورواه أحمد من حديث أبي سعيد بزيادة: " قالوا: وما كرامة الضيف؟ قال: ثلاثة أيام ، فما جلس بعد ذلك فهو صدقة ". (وقال) -صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) متفق عليه من حديثهما أيضا ، وهو بعض الحديث الذي قبله ، ورواه أبو نعيم في الحلية ، والضياء من حديث أبي سعيد بلفظ: " فلا يؤذ جاره " وكذلك رواه الخطيب من حديث أبي شريح مقتصرا على هذه القطعة ، وعند ابن النجار من حديث علي: " لا يؤمن بالله من لم يكرم جاره " (وقال) - صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) متفق عليه من حديثهما أيضا ، وهو بعض الحديث الذي قبله ، وقد رواه الطبراني مع الذي قبله فقط من حديث ابن عباس ، ومع الجملة الأولى فقط من حديث ابن عمر بزيادة: " فليتق الله قبل كل منهما " (وذكر) -صلى الله عليه وسلم- : (إن صفات المؤمنين هي حسن الخلق فقال: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا) وفي لفظ " خلقا " رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم من حديث أبي هريرة، وقد تقدم غير مرة. (وقال -صلى الله عليه وسلم- : إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه ، فإنه يلقي الحكمة) .

قال العراقي : رواه ابن ماجه من حديث أبي خلاد بلفظ: " إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة " ، وقد تقدم .

قلت: وقد رواه كذلك أبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب ، وروياه أيضا من حديث أبي هريرة وسنده ضعيف .

(وقال -صلى الله عليه وسلم- : من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن) أي: كامل لأن من لا يرى للحسنة فائدة ولا للمعصية آفة فذلك يكون من استحكام الغفلة على قلبه ، فإيمانه ناقص بل يدل ذلك على استهانته بالدين .

قال العراقي : رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه على شرطهما من حديث أبي موسى ، ورواه الطبراني والحاكم وصححه على شرطهما من حديث أبي أمامة اهـ .

قلت: رواه كذلك النسائي في الكبرى ، والخطيب من حديث جابر بن سمرة أن عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " من سرته. . . . " إلى آخره ، وفي إسناد الطبراني إلى أبي موسى ابن عتيك وهو ضعيف جدا .

(وقال -صلى الله عليه وسلم- : لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة يؤذيه) ، قال العراقي : رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق ، وفي البر والصلة مرسلا، وقد تقدم .

(وقال -صلى الله عليه وسلم- : لا يحل لمسلم أن يروع مسلما) أي: يفزعه ، وإن كان هازلا كإشارته بسيف أو حديدة أو أفعى أو أخذ متاعه فيفزع لفقده ، لما فيه من إدخال الأذى والضرر عليه .

قال العراقي : رواه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا رجال من الصحابة. . . فذكره مرفوعا ، وفي أوله قصة. ورواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن النعمان ، وابن بشير والبزار من حديث ابن عمر ، وإسناده ضعيف اهـ .

قلت: ورواه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى أيضا أحمد والبغوي والبيهقي ، وعندهم من أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزعه فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث ابن عمر رواه أيضا الدارقطني في الأفراد ، ورواه ابن المبارك في الزهد من حديث أبي هريرة وبخط الحافظ ابن حجر على هامش المغني ، ورواه إسحاق بن راهويه من حديث أبي هريرة وأبو نعيم في تاريخه من حديث أنس (وقال -صلى الله عليه وسلم- : إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله) تعالى (فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره) من إفشائه، فيه حفظ المسلم سر أخيه وتأكد الاحتياط لحفظ الأسرار لا سيما عن الأشرار ، رواه

[ ص: 359 ] ابن لال وأبو الشيخ من حديث ابن مسعود بسند ضعيف ، ورواه البيهقي في الشعب مرسلا ، وقال: هذا مرسل جيد، وقد تقدم في كتاب آداب الصحبة (وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: أن يكون كثير الحياء) من الله ومن الناس (قليل الأذى) لجاره وصاحبه (كثير الصلاح) في عمله وشأنه (صدوق اللسان) في جميع أقواله (قليل الكلام) في محاوراته (كثير العمل) بجوارحه (قليل الزلل) في حركاته وسكناته (قليل الفضول) في منطقه ومأكله وملبسه ومشربه (برا) بوالديه وأشياخه وأصحابه (وصولا) لذي رحمه وجيرانه (وقورا) في مجلسه (صبورا) على الطاعة وقصد المعيشة ، (شكورا) لنعمة الله تعالى ولمن وصلته على يديه (حليما) عند غضبه (رفيقا) بعياله وبمن يخالله (شفيقا) عن المساكين (لا) هو (لعان) كثير اللعن (ولا سباب) كثير الشتم (ولا نمام) بين اثنين (ولا مغتاب) لإخوانه (ولا عجول) في أموره (ولا حقود) على أحد (ولا بخيل) بماله (ولا حسود) إن رأى نعمة على غيره (هشاش بشاش) أي: منطلق الوجه واللسان (يحب في الله) ورسوله (ويبغض في الله) ورسوله (ويرضى في الله ويغضب في الله ، فهذا هو حسن الخلق ، وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن علامة المؤمن والمنافق فقال: " إن المؤمن همته في الصلاة والصيام والعبادة ، وإن المنافق همته في الطعام والشراب كالبهيمة") قال العراقي : لم أجد له أصلا ، قلت: ويشهد له قوله تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (وقال حاتم) بن عنوان (الأصم) رحمه الله تعالى تلميذ شقيق البلخي ، تقدمت ترجمته في كتاب العلم: (المؤمن مشغول بالفكر) أي: بالتفكر في نفسه (والصبر) أي: بما يعتبر به ، (والمنافق مشغول بالحرص) على حوز شهواته (والأمل) أي: طوله (والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله) أي: آيس مما في أيدي الناس (والمنافق راج كل أحد إلا من الله ، والمؤمن آمن من كل أحد إلا من الله ، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله ، والمؤمن يقدم ماله دون دينه) إذ الدين عظيم عنده مهاب لديه فيهون بماله ولا يهون بدينه ، (والمنافق يقدم دينه دون ماله) لأنه لا مهابة للدين عنده (والمؤمن يحسن عمله ويبكي) خوفا أن لا يقبل ، (والمنافق يسيء) عمله ويضحك لغفلته عن الخاتمة ، (والمؤمن يحب الوحدة والخلوة) عن الناس لسلامة دينه وحاله ، (والمنافق يحب الخلطة والملأ) من الناس فيأنس بهم ، (والمؤمن يزرع ويخشى الفساد) أي: يثبت العمل كما ينبغي ويخشى عاقبة أمره ، (والمنافق يقلع) ما زرعه قبل بلوغه (ويرجو الحصاد) وأنى له ذلك ، (والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح) أمور العامة ، (والمنافق يأمر وينهى للرياسة) أي: لأجل تحصيلها (فيفسد) حالهم، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن الحسين، قال: سمعت أبا علي سعيد بن أحمد البلخي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن الليث يقول: سمعت حامدا اللفاف يقول: سمعت حاتما يقول: المنافق ما أخذ من الدنيا، أخذ بحرص، ويمنع بالشك، وينفق بالرياء ، والمؤمن يأخذ بالخوف، ويمسك بالشدة، وينفق لله خالصا في الطاعة ، وقال في ترجمة شقيق من طريق حاتم الأصم قال: سمعت شقيقا يقول: مثل المؤمن كمثل رجل غرس نخلة وهو يخاف أن تحمل شوكا ، ومثل المنافق مثل رجل زرع شوكا وهو يطمع أن يحصد ثمرا ، هيهات هيهات كل من عمل حسنا ، فإن الله لا يجزيه إلا حسنا ، وقال أيضا: المؤمن مشغول بخصلتين ، والمنافق مشغول بخصلتين ؛ المؤمن بالصبر والتفكر ، والمنافق بالحرص والأمل .

(وأول ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفا) كما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من صبره على أذى قريش واحتماله لجفاهم ، (ومن شكى من سوء خلق غيره فيدل ذلك على سوء خلقه) ؛ لأن شكايته دلت على عدم احتماله ، (لأن حسن الخلق) هو (احتمال الأذى ، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي ومعه أنس) بن مالك رضي الله عنه (فأدركه أعرابي) من جفاة العرب (فجذبه) بردائه (جذبا شديدا

[ ص: 360 ] وكان عليه) -صلى الله عليه وسلم- (برد نجراني) منسوب إلى نجران بلد من بلاد همدان باليمن ، قال البكري: سمي باسم أبيها نجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان (غليظ الحاشية ، قال أنس: حتى نظرت إلى عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه ، ثم قال) الأعرابي: (يا محمد، هب لي من مال الله الذي عندك) فإنك لا تعطيني من مالك ولا مال أبيك ، (فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك ، ثم أمر) له (بعطائه) رواه البخاري ومسلم من حديث أنس .

(ولما أكثرت قريش ضربه وإيذاءه قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، فلذلك قال الله تعالى) مخاطبا له ( وإنك لعلى خلق عظيم ) رواه ابن حبان والبيهقي في دلائل النبوة من حديث سهل بن سعد ، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه حكاه -صلى الله عليه وسلم- عن نبي من الأنبياء ضربه قومه .

(وحكي عن إبراهيم بن أدهم) رحمه الله تعالى (أنه خرج إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي) منسوب إلى الجند أي العسكر (فقال له: أنت عبد ؟ فقال: نعم. قال: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة) أي: محلة الموتى (فقال الرجل: إنما أردت العمران ، فقال: هو المقبرة ، فغاظه ذلك) أي: أغضبه (فضرب رأسه بالسوط فشجه) وسال منه دم (ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا: ما هذا؟ فأخبرهم الجندي ، فقالوا: هذا إبراهيم بن أدهم ، فنزل الجندي عن دابته فقبل يديه ورجليه ، وجعل يعتذر إليه ، فقيل له: لم قلت: أنا عبد؟ قال: إنه لم يسألني أنت عبد من؟ بل قال لي: أنت عبد؟ فقلت: نعم ، لأني عبد الله ، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة ، فقيل له: إنه ظلمك فكيف سألت الله له الجنة؟ فقال: علمت أني أوجر على هذا فلم أحب أن يكون نصيبي منه الخير ، ونصيبه مني الشر ، ودعي أبو عثمان) سعد بن إسماعيل (الحيري) المقيم بنيسابور ، صحب شاه الكرماني ويحيى بن معاذ الرازي ، ثم ورد نيسابور مع شاه الكرماني على أبي حفص الحداد ، وأقام عنده وتخرج به ، وزوجه أبو جعفر ابنته ، مات سنة 298 (إلى دعوة) بنيسابور (وكان الداعي) له (يريد تجربته) أي: امتحانه (فلما بلغ منزله قال له: ليس لي وجه هذا ، فرجع أبو عثمان ، فلما ذهب غير بعيد جاءه ثانيا فقال: ترجع على ما يوجب الوقت ، فلما بلغ الباب قال له مثل مقالته الأولى ، فرجع أبو عثمان، ثم جاءه الثالثة حتى عامله بذلك مرات ، وأبو عثمان لم يتغير) هكذا في نسخ الكتاب ، وفي بعضها ، وحكي أن بعض تلامذة أبي عثمان الحيري دعاه إلى دعوة ، وكان قد أراد تجربته ، فلما بلغ المنزل قال له: يا أستاذ ارجع، فرجع أبو عثمان ، ثم دعاه الثانية فقال: ارجع بما يوجب الوقت ، فرجع ، فلما بلغ الباب قال: ارجع فرجع حتى عامله بذلك مرات ، وهو لا يتغير فأكب على رجليه (فقال) يا أستاذ (إنما أردت أن أختبرك ، فما أحسن خلقك ، فقال أبو عثمان: الذي رأيت مني هو خلق كلب) وذلك (لأن الكلب إذا دعي أجاب ، وإذا زجر انزجر) وهذا فيه هضم جانب النفس وعدم الإعجاب بما عمله والإرشاد للداعي بما فيه الصلاح له .

(وروي أن أبا عثمان) هذا (اجتاز) أي: مر يوما (بسكة) من سكك نيسابور (فطرحت عليه إجانة رماد) من فوق بيت من البيوت المطلة على السكة (فنزل عن دابته وجعل ينفض ذلك عن ثيابه ولم يقل شيئا فقيل) له: (ألا زبرتهم) أي: زجرتهم (فقال: إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب) وهذا غاية من سعة الخلق ، (وروي أن) أبا الحسن (علي بن موسى) بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يلقب (الرضا) بكسر الراء وفتح المعجمة صدوق ، روى له ابن ماجه ، مات سنة

[ ص: 361 ] ثلاث ومائتين ، ولم يكمل الخمسين ، ووالده يلقب الكاظم ، وجده الصادق (كان يميل لونه إلى السواد؛ إذ كانت أمه سوداء) أم ولد يقال لها: أم البنين ، نوبية ، اسمها خيزران ، أو مسكن ، أو شهدة ، والأول أصح، (وكان له بنيسابور على باب داره حمام ، وكان إذا دخل الحمام فرغ له الحمام) أي: أخلي له (فدخل ذات يوم فأطبق باب الحمام ومر الحمامي إلى قضاء بعض حوائجه ، فتقدم إنسان رستاقي) أي: من سواد البلد (إلى باب الحمام) ففتحه (ودخل ونزع ثيابه ، فدخل الحمام فرأى علي بن موسى الرضا ، فظن أنه بعض خدام الحمام ، فقال له: قم فاحمل إلي الماء ، فقام علي بن موسى وامتثل جميع ما كان يأمره ، فرجع الحمامي فرأى ثياب الرستاقي وسمع كلامه مع علي بن موسى ، فخاف وهرب وخلاهما ، فلما خرج علي بن موسى وسأل عن الحمامي فقيل : إنه خاف مما جرى فهرب ، فقال: لا ينبغي أن يهرب ، إنما الذنب لمن وضع ماءه عند أمة سوداء) فهذا من كمال حسن خلقه حيث لم يعاقب الحمامي ، ولم يغضب عليه ، وامتثل الرستاقي في أوامره .

(وروي أن أبا عبد الله الخياط) أحد رجال الله الصالحين (كان يقعد على دكانه وله حريف مجوسي) أي: صاحب (يستعمله في الخياطة ، وكان إذا خاط لذلك المجوسي حمل إليه دراهم زيوفا) أي: رديئة (وكان أبو عبد الله يأخذها منه ولا يخبره بذلك ولا يردها عليه ، فاتفق يوما) وفي نسخة: فقضى من القضاء (أن أبا عبد الله قام يوما من الحانوت لبعض حاجته فتقدم المجوسي إلى تلميذه واسترجع ما خاطه ودفع إليه درهما زائفا) ، وفي بعض النسخ : فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهما زائفا (فلما نظر فيه التلميذ) وعرف أنه زائف (رده عليه ، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال) له: (بئس ما عملت هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ مدة) وفي نسخة: منذ سنة ، (وأنا أصبر عليه فآخذ الدراهم) منه (وألقيها في البئر كيلا يغر بها مسلما) وفي نسخة: فآخذ منه الدرهم وألقيه في البئر لئلا يغر بها مسلما .

(وقال يوسف بن أسباط) رحمه الله تعالى ، تقدم ذكره مرارا (علامة حسن الخلق عشرة أشياء: قلة الخلاف) أي: مع الأصحاب (وحسن الإنصاف) أي: من نفسه (وترك طلب العثرات) من إخوانه (وتحسين ما يبدو من السيئات) أي: حملها على أحسن مواضعها (والتماس المعذرة) لهم (واحتمال الأذى) منهم (والرجوع باللائمة على نفسه ، والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون معرفة عيوب غيره ، وطلاقة لوجه الصغير والكبير ، ولطف الكلام لمن دونه وفوقه) أي: فإذا وجدت هذه الأوصاف دلت على حسن الخلق، (وسئل) أبو محمد (سهل) التستري رحمه الله تعالى (عن حسن الخلق) ما هو؟ (فقال) : هو على مراتب (أدناه احتمال الأذى وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه ، وقيل: للأحنف بن قيس) بن معاوية التميمي البصري ، وهو لقب له ، واسمه الضحاك ، وقيل: صخر ، وكان مشهورا بالحلم مات سنة سبع وستين بالكوفة ، روى له الجماعة: (ممن تعلمت حسن الخلق؟ فقال: من قيس بن عاصم) بن سنان بن خالد المنقري التيمي الصحابي رضي الله عنه ، مشهور بالحلم ، نزل البصرة (قيل: وما بلغ من خلقه؟ قال: بينما هو جالس في داره إذ جاءت خادمة له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له فمات ، فدهشت الجارية ، فقال: لا روعة عليك، أنت حرة لوجه الله تعالى ، وقيل: كان أويس) بن عامر (القرني) بالتحريك نسبة إلى قبيلة من مراد ، وهو سيد التابعين في قول (إذا رآه الصبيان يرمونه

[ ص: 362 ] بالحجارة ، فيقول: يا إخوتاه إن كان ولا بد فارموني بالصغار) منها (كيلا تدموا ساقي فتمنعوني من الصلاة) فهذا كمال ملاطفته بهم وهو دليل حسن الخلق (وشتم رجل الأحنف بن قيس وكان يتبعه ، فلما قرب من الحي وقف وقال: إن بقي في قلبك شيء فقله كيلا يسمعك بعض سفهاء الحي فيجيبك) وقال أبو بكر بن الأنباري: أخبرني أبي عن أحمد بن عبيد قال: بينا الأحنف في الجامع بالبصرة إذا رجل قد لطمه ، فأمسك الأحنف يده على عينه وقال: ما شأنك؟ فقال: اجتعلت جعلا على أن ألطم سيد بني تميم ، فقال: لست سيدهم إنما سيدهم جارية بن قدامة ، وكان جارية في المسجد ، فذهب الرجل فلطمه ، قال: فأخرج جارية من خفه سكينا فقطع يده ، وناوله ، فقال له الرجل: ما أنت قطعت يدي؟ إنما قطعها الأحنف بن قيس أوردها المزي في ترجمة جارية بن قدامة .

(وروي أن عليا كرم الله وجهه دعا) يوما (غلاما له فلم يجبه فدعاه ثانيا وثالثا فلم يجبه ، فقام إليه فرآه مضطجعا فقال: أما تسمع يا غلام؟ فقال: بلى) سمعت (قال: فما حملك على ترك جوابي؟ قال: آمنت عقوبتك فتكاسلت) عن القيام لندائك (فقال: امض فأنت حر لوجه الله) تعالى (ففيه كظم الغيظ) والإحسان التام إليه بالعتق ، وهما من جملة حسن الخلق .

(وقالت امرأة لمالك بن دينار) البصري رحمه الله تعالى: (يا مرائي ، فقال: يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة ) فهذا فيه احتمال لأذاها وصبر على جفاها واتهام نفسه بهواها ، وهو دليل حسن الخلق (وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له: لم تمسك هذا الغلام؟ قال: لأتعلم عليه الحلم ، فهذه النفوس وقد ذللت بالرياضة) والمجاهدة (فاعتدلت أخلاقها ونقيت من الغش والغل بواطنها) وطهرت من عاداتها الردية سرائرها (فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله) عز وجل ، (وهذا منتهى حسن الخلق ، فإن من يكره فعل الله ولا يرضى به فهو غاية سوء خلقه ، فهؤلاء ظهرت العلامات على ظواهرهم كما ذكرناه ، فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات) ولم يظهر منها شيء على ظاهره (فلا ينبغي أن يغتر بنفسه ، فيظن بها حسن الخلق ، بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة) على الدوام (إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق) وكل يعطى على قدر اجتهاده ونصيبه الذي كتب له (فإنها درجة رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون) ومن سلك سلوكهم. والله الموفق .




الخدمات العلمية