الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان مضمون هذه الآيات مضمون الآيات الثلاث المفتتح بها السورة الهادمة لمذهب الثنوية ، وهم أهل فارس قوم إبراهيم - عليه السلام - وكان إبراهيم - عليه السلام - يعرف بفضله جميع الطوائف ؛ لأن أكثرهم من نسله كاليهود والنصارى والمشركين من العرب ، والمسلمون لما يعلمون من إخلاصه لله تعالى وانتصابه لمحاجة من أشرك به واحتمال الأذى فيه - سبحانه - تلاها بمحاجته لهم بما أبطل مذهبهم وأدحض حججهم فقال : وإذ أي : اذكر ذلك المتقدم كله لهم في الدلائل على اختصاصنا بالخلق وتمام القدرة ، ما أعظمه وما أجله وأضخمه! وتفكر في عجائبه وتدبر في دقائقه وغرائبه تجد ما لا يقدر على مثله إلا الله ، واذكر إذ قال إبراهيم أي : اذكر قوله ، وحكمة [ ص: 156 ] التذكير بوقته التنبيه على أن هذا لم يزل ثابتا مقررا على ألسنة جميع الأنبياء في جميع الدهور ، وكان في هذه المحاجة التصريح بما لوح إليه أول هذه السورة من إبطال هذا المذهب ، وانعطف هذا على ذاك أي انعطاف ! وصار كأنه قيل : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الأصنام والنجوم والنور والظلمة ، فنبههم يا رسول الله على ذلك بأنه لا متصرف غيرنا ، اذكر لهم أني أنا الذي خلقتهم وخلقت جميع ما يشاهدون من الجواهر والأعراض ، فإن تنبهوا فهو حظهم ، وإلا فاذكر لهم محاجة خليلنا إبراهيم - عليه السلام - إذ قال لأبيه ثم بينه في قراءة الجر بقوله : آزر وناداه في قراءة يعقوب بالضم ; قال البخاري في ( تاريخه الكبير ) : إبراهيم بن آزر ، وهو في التوراة : تارح . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد مضى ذلك عن التوراة في البقرة ، فلعل أحدها لقب ، وكان أهل تلك البلاد وهم الكلدانيون ، ويقال لهم أيضا الكسدانيون - بالمهملة موضع اللام - يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض ويجعلون لكل نجم صنما ، إذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم - كما زعموا - إلى النجم ، فقال - عليه السلام - لأبيه منكرا عليه منبها له على ظهور فساد ما هو مرتكبه : أتتخذ أي : أتكلف نفسك [ ص: 157 ] إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل أصناما آلهة أي : تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر ، فنبهه بهذا الإنكار على أن معرفة بطلان ما هو متدين به لا يحتاج إلى كثير تأمل ، بل هو أمر بديهي أو قريب منه ، فإنهم يباشرون أمرها بجميع جوانبهم ويعلمون أنها مصنوعة وليست بصانعة ، وكثرتها تدل على بطلان إلهيتها بما أشار إليه قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا

                                                                                                                                                                                                                                      ولما خص بالنصيحة أقرب الخلق إليه ، عم بقية أقاربه فقال : إني أراك وقومك أي : في اتفاقكم على هذا في ضلال أي : بعد عن الطريق المستقيم مبين أي : ظاهر جدا ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبي نبأه الله تعالى من آدم - عليه السلام - فمن بعده ، فهو مع ظهوره في نفسه مظهر للحق من أن الإله لا يكون إلا كافيا لمن يعبده ، وإلا كان فقيرا إلى تأله من يكفيه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية