الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما وصف - سبحانه وتعالى - نفسه المقدسة من فلق الجواهر بما اقتضى حتما اتصافه بصفات الكمال ، وقدمه لكونه من أظهر أدلة القدرة على البعث الذي هذا أسلوبه ، مع الإلف له بقربه ومعالجته ، أتبعه ما هو مثله في الدلالة على الإحياء لكنه في المعاني وهو سماوي ، شارحا لما أشار إليه الخليل - عليه السلام - في محاجة قومه من إبطال إلهية كل من النور والظلمة والكواكب التي هي منشأ ذلك ، فقال ترقية من العالم السفلي إلى العالم العلوي : فالق الإصباح أي : موجده ، وحقيقته : فالق ظلمة الليل عن الصباح ، لكنه لما كثر استعماله وأمن اللبس فيه أسند الفعل إلى الصبح ، كما يقال : انفجر الصبح ، وانفجر عنه الليل ، ويمكن أن يراد بالفلق الكشف ؛ لأنه يكشف من المفلوق ما كان خفيا ، فعبر عن المسبب الذي هو الإظهار بالسبب الذي هو الفلق ، وعبر عن الصباح بهذه الصيغة التي يقال المدخول في الصبح لتصلح لإرادة فلق السكون بالنور أو غيره عن التصرف بالحركة المرتبة على الدخول في الصبح ، فدلنا ذلك على وجاعل الإصباح حركة وسادل الليل وجعل الليل بما يكون من إظلامه سكنا يسكن الناس فيه وإليه ويستريحون فيه ، فالآية من الاحتباك : حذف من الأول الحركة ودل [ ص: 200 ] عليها بالسكن ، وحذف من الثاني السدل ودل عليه بالفلق ، وهذا الفلق من أعظم الدلائل على قدرته - سبحانه - وفيه دلالتان ؛ لأن الإصباح يشمل الفجر الكاذب والصادق ، والأول أقوى دلالة لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع - الذي تكون تلك الدائرة أفقا له - تطلع الشمس من مشرقه ، فيضيء في ذلك الموضع نصف كرة الأرض ، فيحصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتك ، ويكون ذلك الضوء منتشرا مستطيرا في جميع الجو ، ويجب أن يقوى لحظة فلحظة ، فلو كان الأول من قرص الشمس لامتنع أن يكون خطا مستطيلا ، بل كان يجب أن يكون مستطيرا في الأفق منتشرا متزايدا لحظة فلحظة ، لكن ليس هو كذلك ، فإنه يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى شبهته العرب بذنب السرحان ثم يحصل عقبه ظلمة خالصة ، ثم يكون الثاني الصادق المستطير فكان الأول أدل على القدرة ؛ لأنه بتخليق الله ابتداء تنبيها على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بإبداعه ، والظلمات ليس لها ثبات إلا بتقديره .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر الضياء والظلمة - ذكر منشأهما وضم إليه قرينه فقال عاطفا على محل " الليل " لأن جاعلا ليس بمعنى المضيء فقط لتكون الإضافة حقيقية ، بل المراد استمراره في الأزمنة كلها : والشمس أي : التي ينشأ عنها كل منهما ، هذا عن غروبها وهذا عن شروقها [ ص: 201 ] والقمر أي : الذي هو آية الليل حسبانا أي : ذوي حسبان وعلمين عليه ؛ لأن الحساب يعلم بدورهما وسيرهما ، وبسبب ذلك نظم - سبحانه - مصالح العالم في الفصول الأربعة ، فيكون عن ذلك ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات ، وعبر عنهما بالمصدر المبني على هذه الصيغة البليغة إشارة إلى أن الحساب بهما أمر عظيم كبير النفع كثير الدخول ، مع ما له من الدنيا في أبواب الدين فهو جل نفعهما الذي وقع التكليف به ، فكأنه لما كان الأمر كذلك - كان حقيقتهما التي يعبر عنهما بها ، وأما غير ذلك من منافعهما فلا مدخل للعباد فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا أمرا باهرا ووصفا قاهرا - أشار إليه بأداة البعد فقال : ذلك أي : التقدير العظيم الذي تقدم من الفلق وما بعده تقدير العزيز أي : الذي لا يغالب فهو الذي قهرهما على ما سيرهما فيه ، وغلب العباد على ما دبر من أمرهم بهما ، فلو أراد أحد أن يجعل ما جعله من النوم يقظة واليقظة نوما ، أو يجعل محل السكن للحركة أو بالعكس أو غير ذلك مما أشارت إليه الآية لأعياه ذلك العليم أي : الذي جعل ذلك بعلمه على منهاج لا يتغير وميزان قويم لا يزيغ .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية