الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر بتكذيبهم على هذا الوجه وتوعدهم بتحتم تعذيبهم ، أتبعه ما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، فعجب من تماديهم مع ما علموا [ ص: 22 ] من إهلاك من كان أشد منهم قوة وأكثر جمعا وجنى من سوابغ النعم بما لم يعتبروه فيه مع ما ضموه إلى تحقق أخبارهم من مشاهدة آثارهم وعجيب اصطناعهم في أبنيتهم وديارهم مستدلا بذلك على تحقيق ما قبله من التهديد على الاستهزاء ، فقال مقررا منكرا موبخا معجبا : ألم يروا ودل على كثرة المخبر عنهم تهويلا للخبر بقوله : كم أهلكنا

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المراد ناسا معينين لم يستغرقوا زمن القبل ، وهم أهل المكنة الزائدة كقوم نوح وهود وصالح - أدخل الجار فقال : من قبلهم وبين " كم " بقوله : من قرن أي : جماعة مقترنين في زمان واحد ، وهم أهل كل مائة سنة - كما صححه القاموس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم – لغلام : ( عش قرنا ) ، فعاش مائة . هذا نهاية القرن ، والأقرب أنه لا يتقدر ، بل إذا انقضى أكثر أهل عصر قيل : انقضى القرن ، ودل على ما شاهدوا من آثارهم بقوله : مكناهم أي : ثبتناهم بتقوية الأسباب من البسطة في الأجسام والقوة في الأبدان والسعة في الأموال في الأرض أي : بالقوة والصحة والفراغ ما لم نمكنكم ، ومكنا لهم بالخصب والبسطة والسعة ما لم نمكن أي : تمكينا لم نجعله لكم أي : نخصكم به ، فالآية من الاحتباك أو شبهه ، والالتفات من [ ص: 23 ] الغيبة إلى الخطاب لئلا يلتبس الحال ؛ لأن ضمير الغائب يصلح لكل من المفضول والفاضل ، ولا يبقي اللبس التعبير بالماضي في قوله وأرسلنا السماء أي : المطر ؛ تسمية للشيء باسم سببه ، أو : السحاب عليهم ولما كان المراد المطر ، كان التقدير : حال كونه مدرارا أي : ذا سيلان غزير متتابع لأنه صفة مبالغة من الدر ، قالوا : ويستوي فيه المذكر والمؤنث .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر نفعهم بماء السماء ، وكان غير دائم ، أتبعه ماء الأرض لدوامه وملازمته للبساتين والرياض فقال : وجعلنا الأنهار تجري ولما كان عموم الماء بالأرض وبعده مانعا من تمام الانتفاع بها ، أشار إلى قربه وعدم عموم الأرض به بالجار فقال : من تحتهم أي : على وجه الأرض وأسكناه في أعماقها فصارت بحيث إذا حفرت نبع منها [من] الماء ما يجري منه نهر .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من المعلوم أنه من الماء كل شيء حي - فكان من أظهر الأشياء أنه غرز نباتهم واخضرت سهولهم وجبالهم ، فكثرت زروعهم وثمارهم ، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم - أعلم سبحانه أن ذلك ما كان إلا لهوانهم استدراجا لهم بقوله مسببا عن ذلك : فأهلكناهم أي : بعظمتنا بذنوبهم أي : التي كانت عن بطرهم النعمة [ ص: 24 ] ولم نبال بهم ولا أغنت عنهم نعمهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإنسان ربما أبقى على عبده أو صاحبه خوفا من الاحتياج إلى مثله ، بين أنه - سبحانه - غير محتاج إلى شيء ، فقال : وأنشأنا ولما كان سبحانه لم يجعل لأحد الخلد ، أدخل الجار فقال : من بعدهم أي : فيما كانوا فيه قرنا ودل على أنه لم يبق من المهلكين أحدا ، وأن هذا القرن الثاني لا يرجع إليهم بنسب بقوله : آخرين ولم ينقص ملكنا شيئا ، فاحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بهم ، وهذه الآية مثل آية الروم أولم يسيروا في الأرض - الآية ، فتمكينهم هو المراد بالشدة هناك ، والتمكين لهم هو المراد بالعمارة ، والإهلاك بالذنوب هو المراد بقوله فما كان الله ليظلمهم إلى آخر الآيتين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية