الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا كانت الدار بين رجلين وفيها صفة فيها بيت وباب البيت في الصفة ومسيل ماء ظهر البيت على ظهر الصفة فاقتسما فأصاب الصفة أحدهما وقطعه من الساحة ولم يذكر طريقا ولا مسيل ماء وصاحب البيت يقدر أن يفتح بابه فيما أصابه من الساحة ويسيل ماءه في ذلك فأراد أن يمر في الصفة على حاله ويسيل ماءه على ما كان فليس له ذلك سواء اشترط كل واحد منهما أن له ما أصابه بكل حق له أو لم يشترط ذلك والقسمة في هذا بخلاف البيع ; فإنه لو باع البيت وذكر في البيع الحقوق والمرافق دخل الطريق ومسيل الماء وإن لم يذكر الحقوق والفرق أن المقصود بالبيع إيجاب الملك وقصد المشتري أن يتمكن من الانتفاع ، وذلك يتم بالطريق والمسيل لا أن ذلك خارج من المحدود فلا يدخل في البيع بمطلق التسمية للبيت إلا بذكر الحقوق والمرافق فالمقصود بالقسمة تمييز أحد الملكين من الآخر وأن يختص كل واحد منهما بالانتفاع بنصيبه على وجه لا يشاركه الآخر فيه وإنما يتم هذا المقصود إذا لم يدخل الطريق والمسيل لتمييز نصيب أحدهما عن الآخر من كل وجه ; فلهذا لا يدخل مع ذكر الحقوق والمرافق توضيح الفرق أن المقصود بالبيع الاسترباح ، وذلك باعتبار المالية والمالية تختلف بدخول الطريق والمسيل في البيع [ ص: 15 ] فعند ذكر الحقوق والمرافق عرفنا أنهما قصدا ذلك فأما في القسمة المقصود التميز دون الاسترباح فبذكر الحقوق والمرافق لا يتبين أنهما لم يقصدا التمييز في أن لا يبقى لأحدهما في نصيب الآخر طريق مسيل ماء ولو لم يكن له مفتتح للطريق ولا مسيل ماء ; فإذا ذكر في كتاب القسمة أن لكل واحد منهما ما أصابه بكل حق له جازت القسمة وكان طريقه في الصفة ومسيل مائه على طريق سطحه كما كان قبل القسمة ، وإن لم يذكر الحقوق والمرافق فالقسمة فاسدة بخلاف البيع ; فإنه يكون صحيحا ، وإن لم يذكر الحقوق والمرافق ; لأن المقصود بالبيع ملك العين وهذا المقصود يتم للمشتري

وإن كان يتعذر عليه الانتفاع لعدم الطريق والمسيل له كمن اشترى مهرا صغيرا أو أرضا سبخة فإنه يجوز ، وإن كان لا ينتفع بالمشترى وهذا ; لأنه ترك النظر لنفسه حين لم يذكر الحقوق والمرافق ليدخل الطريق والمسيل فلا يشتغل بالنظر له فأما في القسمة المقصودة اتصال كل واحد منهما إلى الانتفاع بنصيبه فإذا لم يكن له مفتتحا إلى الطريق ولا مسيل ماء فهذه قسمة وقعت على ضرر فلا يجوز إلا أن يذكر الحقوق والمرافق فيستدل بذلك على أنهما قصدا إدخال الطريق والمسيل لتصحيح القسمة لعلمها أن القسمة لا تصح بدونهما في هذا الموضع بخلاف ما سبق توضيحه أن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة .

وإذا لم يكن له طريق ولا مسيل ماء لا يحصل معنى المعادلة في المنفعة فلا تصح القسمة كما لو استأجر مهرا صغيرا أو أرضا سبخة للزراعة لم يجز لفوات ما هو المقصود وهو المنفعة فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يدخل الطريق والمسيل ، وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتصحيح القسمة كما إذا استأجر أرضا دخل الشرب والطريق ، وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتحصيل المنفعة قلنا هناك موضع الشرب والطريق ليس مما تتناوله الإجارة ولكن يتوصل به إلى الانتفاع بالمستأجر والأجير إنما يستوجب الأجرة إذا تمكن المستأجر من الانتفاع ففي إدخال الشرب توفير المنفعة عليهما وأما هنا موضع الطريق والمسيل داخل في القسمة وموجب القسمة اختصاص كل واحد منهما بما هو نصيبه فلو أثبتنا لأحدهما حقا في نصيب الآخر تضرر به الآخر ولا يجوز إلحاق الضرر به بدون رضاه وإنما دليل الرضا اشتراطه الحقوق والمرافق ; فلهذا لا يدخل الطريق والمسيل بدون ذكره الحقوق والمرافق ولو رفعا طريقا بينهما وكان على الطريق ظلة وكان طريق أحدهما على تلك الظلة وهو يستطيع أن يتخذ طريقا آخر فأراد صاحبه أن يمنعه من المرور على ظهر الظلة لم يكن له ذلك ; لأن أصل الطريق [ ص: 16 ] مشترك بينهما وكما أن أسفله ممر لهما ، فكذلك أعلاه فهو لا يريد بهذا أن يحدث لنفسه حقا في نصيب شريكه وإنما يريد أن يستوفي حقه فلا يمنع من ذلك بخلاف ما تقدم فهناك إنما يريد اتخاذ طريق ومسيل لنفسه في ملك خص به صاحبه وليس له ذلك وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول في العلو الذي لا سفل له وفي السفل الذي لا علو له يحسب في القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو

وقال أبو يوسف رحمه الله يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف ، ثم ينظر كم جملة ذرع كل واحد منهما فيطرح من ذلك النصف ، وقال محمد رحمه الله يقسم ذلك على القيمة قيمة العلو أو قيمة السفل وقيل أن أبا حنيفة رحمه الله أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو وأبو يوسف رحمه الله أجاب بناء على ما شاهده من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى ومحمد شاهد اختلاف العادات في البلدان فقال : إنما يقسم على القيمة وقيل بل هو بناء على أصل آخر وهو أن عند محمد رحمه الله وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لصاحب السفل منفعتان منفعة السكنى ومنفعة البناء ; فإنه لو أراد أن يحفر في سفله سردابا لم يكن لصاحب العلو منعه من ذلك فلصاحب العلو منفعة واحدة وهي منفعة السكنى ; فإنه لو أراد أن يبني على علوه علوا آخر كان لصاحب السفل منعه من ذلك والمعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة ; فلهذا جعل بمقابلة ذراع من السفل ذراعين من العلو وأبو يوسف رحمه الله يقول : لصاحب العلو أن يبني على علوه إذا كان ذلك لا يضر بالسفل كما أن لصاحب السفل أن يحفر سردابا في السفل إذا كان لا يضر بصاحب العلو فاستويا في المنفعة فيحصل ذراع من السفل بذراع من العلو وحجته لإثبات هذا الأصل أن صاحب العلو يبني على ملكه كما أن صاحب السفل يتصرف في ملكه واتصال العلو بالسفل كاتصال بيتين متجاورين فلكل واحد منهما أن يتصرف في ملكه على وجه لا يلتحق الضرر لصاحبه

وأبو حنيفة رحمه الله يقول : صاحب السفل بحفر السرداب يتصرف في الأرض وهي خالص ملكه وصاحب العلو يحمل ما يبني على حائط السفل أيضا وهو مملوك لصاحب السفل وزيادة البناء تصير بحائط صاحب السفل لا محالة ويتبين ذلك في الثاني إن كان لا يتبين في الحال ولا يكون له أن يفعل ذلك بدون رضاء صاحب السفل ومحمد في هذا الفصل وافق أبا يوسف ولكن في القسمة يقول : تعتبر القيمة ; لأن العلو والسفل بناء والمعادلة في قسمة البناء تتيسر ولأن في بعض البلدان تكون قيمة العلو أكثر من قيمة السفل وهو كذلك [ ص: 17 ] بمكة وبمصر وفي بعض البلدان قيمة السفل أكثر من قيمة العلو كما هو بالكوفة قيل في كل موضع تكثر النداوة في الأرض يختار العلو عن السفل وفي كل موضع يشتد البرد ويكثر الريح يختار السفل على العلو وربما يختلف ذلك أيضا باختلاف الأوقات فلا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالقيمة فاستحسن القسمة في العلو والسفل باعتبار القيمة ، ثم تفسير المسألة في فصلين أحدهما أن يكون بينهما سفل علوه لغيرهما وعلو سفله لغيرهما فأراد القسمة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يجعل بمقابلة كل ذراع ذراع والثاني أن يكون المشترك بين الشركاء بيتا لسفله علو وسفل لا علو له بأن كان العلو لغيرهم وعلو لا سفل له فعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل بإزاء مائة ذراع من العلو الذي لا سفل له ثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا من البيت الكامل وبإزاء مائة ذراع من السفل الذي لا علو له ستة وستين ذراعا وثلثي ذراع من البيت الكامل ; لأن العلو عنده مثل نصف السفل كما في الفصل الأول وعند أبي يوسف رحمه الله يجعل بإزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل مائة ذراع من السفل الذي لا علو له ومائة ذراع من العلو الذي لا سفل له ; لأن السفل والعلو عنده سواء فخمسون ذراعا من البيت الكامل بمنزلة مائة ذراع خمسون منها سفل وخمسون منها علو ومحمد رحمه الله في ذلك كله يعتبر المعادلة بالقيمة وعليه الفتوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية