الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  88 30 - حدثني محمد بن مقاتل أبو الحسن ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : أخبرنا عمر بن سعيد بن أبي حسين ، قال : حدثني عبد الله بن أبي مليكة ، عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز ، فأتته امرأة فقالت : إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج ، فقال لها عقبة : ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني ، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف وقد قيل ؟ ! ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في قوله " فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وليس فيه ما يطابق قوله “ وتعليم أهله " [ ص: 101 ] فلهذا قلنا والصواب حذفه لأنه يأتي في باب آخر .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم خمسة ، الأول : محمد بن مقاتل المروزي ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عبد الله بن المبارك المروزي ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الثالث : عمر بن سعيد بن أبي حسين النوفلي المكي ، روى عن طاوس وعطاء وعدة ، وعنه يحيى القطان وروح وخلق ، وهو ثقة روى له الجماعة وأبو داود في المراسيل ، وهو ابن عم عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بضم الميم زهير بن عبد الله التيمي القرشي الأحول المكي ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عقبة بضم العين المهملة وسكون القاف وفتح الباء الموحدة ابن الحارث بن عامر بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي المكي أبو سروعة بكسر السين المهملة وحكي فتحها ، أسلم يوم الفتح وسكن مكة ، هذا قول أهل الحديث ، وأما جمهور أهل النسب فيقولون : عقبة هذا هو أخو أبي سروعة وأنهما أسلما جميعا يوم الفتح ، وقال الزبير بن بكار وأبو سروعة : هو قاتل حبيب بن عدي ، أخرج لعقبة البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي ، ولم يخرج له مسلم شيئا ، روى له البخاري ثلاثة أحاديث في العلم والحدود والزكاة عن ابن أبي مليكة عنه ، أحدها هذا ، وأخرجه معه هؤلاء الثلاثة .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والإخبار والعنعنة ، ومنها أن في رواته مروزيان وثلاثة مكيون ، ومنها أن هذا من أفراد البخاري عن مسلم ، وانفرد عنه أيضا بعقبة بن الحارث ، فإن قلت : قال أبو عمر : ابن أبي مليكة لم يسمع من عقبة ، بينهما عبيد بن أبي مريم ، فعلى هذا يكون الإسناد منقطعا ؟ قلت : هذا سهو منه ، وسيجيء في كتاب النكاح في باب شهادة المرضعة أن ابن أبي مليكة قال : حدثنا عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث قال : وسمعته من عقبة لكني لحديث عبيد أحفظ ، فهذا صريح في سماعه من عقبة .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الشهادات عن حبان عن ابن المبارك ، وعن أبي عاصم ، كلاهما عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، وفي البيوع في باب تفسير الشهادات عن محمد بن كثير عن الثوري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، وفي الشهادات عن علي عن يحيى بن أبي سعيد عن ابن جريج ، ثلاثتهم عن ابن أبي مليكة عن عقبة به ، وفي النكاح عن علي عن إسماعيل بن علي عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبيد بن أبي مريم عن عقبة كما ذكرناه ، وأخرجه أبو داود في القضايا عن عثمان بن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية به ، وعن أحمد بن شعيب الحراني عن الحارث بن عمير البصري عن أيوب به ، وعن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث به ، قال ابن أبي مليكة : وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي أحفظ ، وأخرجه الترمذي في الرضاع عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به ، وقال : حسن صحيح ، وأخرجه النسائي في النكاح عن علي بن حجر به ، وفي القضاء عن محمد بن أبان ويعقوب بن إبراهيم ، كلاهما عن إسماعيل بن علية به ، وعن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث عن ابن جريج به ، وفيه وفي العلم عن إسحاق بن إبراهيم عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد به .

                                                                                                                                                                                  بيان ما فيه من اللغة والإعراب ، قوله “ أرضعت " مزيد ، رضع الصبي أمه يرضعها رضاعا مثل سمع يسمع سماعا ، وأهل نجد يقولون : رضع يرضع رضعا مثال ضرب يضرب ضربا ، وكذلك الرضاع والرضاعة ، قال الله تعالى : أن يتم الرضاعة وقرأ أبو حيوة وأبو رجاء والجارود وابن أبي عبلة " أن يتم الرضاعة " بكسر الراء ، قال في العباب : قالوا رضع الرجل بالضم رضاعة كأنه كالشيء يطبع عليه ، وقال ابن عباد : رضع الرجل من الرضاعة بالفتح أيضا مثله رضع فهو راضع ورضيع ورضاع ، وجمع الراضع رضع كراكع وركع ورضاع أيضا ككافر وكفار ، ثم قال : والتركيب يدل على شرب اللبن من الضرع أو الثدي ، قوله “ تزوج ابنة " جملة في محل الرفع على أنها خبر أن ، قوله “ لأبي إهاب " صفة ابنة ، قوله “ فأتته امرأة " عطف على تزوج ، قوله “ عقبة " بالنصب مفعول أرضعت ، قوله “ والتي تزوج بها " عطف على عقبة ، قوله “ ما أعلم " جملة منفية من الفعل والفاعل ، وقوله " أنك أرضعتني " أن مع اسمها وخبرها سدت مفعولي أعلم ، وفي بعض النسخ " أرضعتيني وأخبرتيني " بالياء فيهما الحاصلة من إشباع الكسرة ، قوله “ ولا أخبرتني " عطف على قوله " لا أعلم " فافهم ، وإنما قال أعلم بصيغة المضارع وأخبرت بصيغة الماضي لأن نفي العلم حاصل في الحال بخلاف نفي الإخبار فإنه كان في الماضي فقط ، قوله “ بالمدينة " يتعلق بمحذوف لا بقوله فركب ، ومحلها [ ص: 102 ] النصب على الحال ، والتقدير : فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه بالمدينة أي فيها ، وكان ركوبه من مكة لأنها دار إقامته ، قوله “ فسأله " أي فسأل عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم في المسألة النازلة لذاته ، قوله “ كيف " هو ظرف يسأل به عن الحال ، قوله “ وقد قيل " أيضا حال ، وهما يستدعيان عاملا يعمل فيهما ، والتقدير كيف تباشرها وتفضي إليها وقد قيل إنك أخوها ، أي إن ذلك بعيد من ذي المروءة والورع ، قوله “ عقبة " فاعل فارقها ، قوله “ ونكحت " جملة من الفعل والفاعل وزوجا مفعوله وغيره بالنصب صفته .

                                                                                                                                                                                  فيه من المبهمات أربعة : الأول : قوله " ابنة " قال الكرماني : كنيتها أم يحيى ولم يعلم اسمها ، قلت : يعلم ، واسمها غنية بفتح الغين المعجمة وكسر النون وتشديد الياء آخر الحروف .

                                                                                                                                                                                  الثاني : قوله " أبو إهاب " بكسر الهمزة وفي آخره باء موحدة ابن عزيز بفتح العين المهملة وكسر الزاي وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره زاي أيضا ، وقال الشيخ قطب الدين : وليس في البخاري عزيز بضم العين ، وقال الكرماني : وفي بعض الروايات عزير بضم المهملة وبالزاي المفتوحة والراء ، وقال بعضهم : ومن قال بضم أوله فقد حرف ، قلت : إن كان مراده بضم الأول وفي آخره زاي معجمة فيمكن ذلك ، وإن كان مراده الغمز على الكرماني في قوله وفي بعض الروايات ، فإنه يحتاج إلى بيان ، وليس نقله أرجح من نقله ، وأبو إهاب هذا لا يعرف اسمه ، وهو ابن عزيز بن قيس بن سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي ، قاله خليفة ، وأمه فاختة بنت عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي ، وهو حليف لبني نوفل ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يأكل أحدنا وهو متكئ ، أخرجه أبو موسى في الصحابة ، ولم يذكره أبو عمر ولا ابن منده .

                                                                                                                                                                                  الثالث : قوله " فأتته امرأة " ما سماها أحد .

                                                                                                                                                                                  الرابع : قوله " زوجا غيره " اسمه ظريب بضم الظاء المعجمة وفتح الراء وفي آخره باء موحدة ابن الحارث ، قال بعض الشارحين : ضريب بن الحارث تزوجها بعد عقبة ، فولدت له أم قبال زوجة جبير بن مطعم ومحمدا ونافعا ، ورأيت في موضع نقل عن خط الحافظ الدمياطي نافع بن ضريب بن عمرو بن نوفل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : الأول فيه أن الواجب على المرء أن يجتنب مواقف التهم وإن كان نقي الذيل بريء الساحة ، الثاني : فيه الحرص على العلم وإيثار ما يقربهم إلى الله تعالى ، قال الشعبي : لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما بقي من عمره لم أر سفره يضيع ، الثالث : احتج بظاهره من أجاز شهادة المرضعة وحدها ومن منع حمله على الورع دون التحريم ، وقال ابن بطال : قال جمهور العلماء : إن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاه بالتحرز عن الشبهة ، وأمره بمجانبة الريبة خوفا من الإقدام على فرج قام فيه دليل على أن المرأة أرضعتهما ; لكنه لم يكن قاطعا ولا قويا لإجماع العلماء على أن شهادة المرأة الواحدة لا تجوز في مثل ذلك ، لكن أشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالأحوط ، وقال غيره : لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم على وجه القضاء وإنما كان احتياطا لما بوب عليه البخاري في البيوع باب تفسير الشبهات ، ومنهم من حمل حديث عقبة على الإيجاب ، وقال : تقبل شهادة المرأة الواحدة على الرضاع ، وهو قول أحمد ، ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن شهادتها تقبل إذا كانت مرضعة وتستحلف مع شهادتها ، وقال مالك : يقبل قولها بشرط أن يفشو ذلك في الأهل والجيران ، فإن شهدت امرأتان شهادة فاشية فلا خلاف في الحكم بها عنده ، وإن شهدتا من غير فشو أو شهدت واحدة مع الفشو ففيه قولان ، ومن قال بالوجوب قال : لو كان أمره لعقبة على الورع أو التنزه لأمره بطلاقها لتحل لغيره ، ويكون قوله “ كيف وقد قيل " على هذا ليهون عليه الأمر ويؤيده تبسمه صلى الله عليه وسلم ، ومنع أبو حنيفة عن شهادة النساء متمحضات في الرضاع ، وأما مذهب الشافعي ففصل أصحابه وقالوا : إذا شهدت المرضعة وادعت مع شهادتها أجرة الرضاع فلا تسمع شهادتها لأنها تشهد لنفسها فتتهم ، وإن أطلقت الشهادة ولم تدع أجرة بأن قالت : أشهد أني أرضعته ففيه خلاف عندهم ، منهم من قال لا تقبل لأنها تشهد على فعل نفسها ، فأشبهت الحاكم إذا شهد على حكمه بعد العزل ، ومنهم من قبلها ، وهو الأصح عندهم لأنها لا تجر بها نفعا وتدفع بها ضرارا ، قلت : وقد ظهر لك الخلل في نقل ابن بطال الإجماع على أن شهادة المرأة الواحدة لا تجوز في الرضاع وشبهه من الذي ذكرنا ; لأن مذهب أحمد وغيره أن شهادة الواحدة في كل ما لا يطلع عليه الرجال من الرضاع وغيره تقبل ، ومما نقل عن مالك من شهادة الواحدة على الشياع ، قلت : روي عن الحسن وإسحاق أيضا نحو مذهب أحمد ، وكذا قال الإصطخري : [ ص: 103 ] وإنما يثبت بالنساء المتمحضات ، وقال أصحابنا : يثبت الرضاع بما يثبت به المال وهو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ، ولا تقبل شهادة النساء المنفردات لأن ثبوت الحرمة من لوازم الملك في باب النكاح ، ثم الملك لا يزول بشهادة النساء المنفردات فلا تثبت الحرمة ، وعند الشافعي تثبت بشهادة أربع نسوة ، وعند مالك بامرأتين ، وعند أحمد بمرضعة ، وقال التيمي : معنى الحديث الأخذ بالوثيقة في باب الفروج ، وليس قول المرأة الواحدة شهادة تجوز بها الحكم في أصل من الأصول ، وفي " كيف وقد قيل " الاحتراز من الشبهة ، ومعنى " فارقها " طلقها ، فإن قلت : النكاح ما انعقد صحيحا على تقدير ثبوت الرضاع ، والمفارقة كانت حاصلة ، فما معنى فارقها ؟ قلت : إما أن يراد بها المفارقة الصورية ، أو يراد الطلاق في مثل هذه الحالة هو الوظيفة ليحل للغير نكاحها قطعا .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية