الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  104 46 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : حدثني الليث قال : حدثني سعيد ، عن أبي شريح أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به النبي [ ص: 139 ] - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به ; حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا : إن الله قد أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب ، فقيل لأبي شريح : ما قال عمرو ؟ قال : أنا أعلم منك يا أبا شريح ، إن مكة لا تعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ، ولا فارا بخربة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قوله : " وليبلغ الشاهد الغائب " .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم أربعة :

                                                                                                                                                                                  الأول : عبد الله بن يوسف التنيسي .

                                                                                                                                                                                  الثاني : الليث بن سعد المصري
                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  الثالث : سعيد بن أبي سعيد المقبري ، وقد تقدم ذكرهم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أبو شريح بضم الشين المعجمة وفتح الراء وبالحاء المهملة الخزاعي الكعبي ، قيل : اسمه خويلد ، قال أبو عمر : قيل : اسمه عمرو بن خالد ، وقيل : كعب بن عمرو ، قال : والأصح عند أهل الحديث أن اسمه خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزى بن معاوية بن المحترش بن عمرو بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة الخزاعي العدوي الكعبي ، أسلم قبل فتح مكة ، وكان يحمل حينئذ أحد ألوية بني كعب بن خزاعة ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرون حديثا ، اتفقا على حديثين ، وانفرد البخاري بحديث وهو " والله لا يؤمن - ثلاثا - من لا يأمن جاره بوائقه " والمتفق عليه " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره " الحديث ، وهذا الحديث . قال الواقدي : وكان أبو شريح من عقلاء أهل المدينة ، توفي سنة ثمان وستين ، روى له الجماعة ، وفي الصحابة من يشترك معه في كنيته اثنان أبو شريح هانئ بن يزيد الحارثي ، وأبو شريح راوي حديث " أعتى الناس على الله تعالى " الحديث ، قالوا : هو الخزاعي ، وقالوا : غيره ، وفي الرواية أيضا أبو شريح الغفاري ، أخرج له ابن ماجه .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها : أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ، ومنها : أن رواته ما بين مصري ومدني ، ومنها : أنه من الرباعيات .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري في الحج ، عن قتيبة ، عن الليث ، وفي المغازي ، عن سعيد بن شرحبيل ، عن الليث . وأخرجه مسلم في الحج ، عن قتيبة به . وأخرجه الترمذي فيه ، عن قتيبة به ، وقال : حسن صحيح ، وفي الديات ، عن ابن بشار ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد في معناه . وأخرجه النسائي في الحج وفي العلم ، عن قتيبة به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله : " البعوث " بضم الباء الموحدة جمع البعث بمعنى المبعوث ، وهو الجند الذي يبعث إلى موضع ، ومعنى يبعث البعوث أي يرسل الجيوش ، والبعث الإرسال ، وفي العباب بعثه أي أرسله ، وقولهم : كنت في بعث فلان أي في جيشه الذي بعث معه ، والبعوث الجيوش ، ومصدر بعثه بعث وبعث بالتحريك أيضا ، والبعثة المرة الواحدة ، قوله : " إيذن " أمر من أذن يأذن ، وأصله ائذن ، قلبت الهمزة الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، قوله : " لامرئ " قد مر أن هذا اللفظ من النوادر ، حيث كانت عينه دائما تابعة للامه في الحركة ، قوله : " أن يسفك " بكسر الفاء على المشهور ، وحكي ضمها ، ومعنى السفك إراقة الدم ، وفي العباب : سفكت الدم أسفكه وأسفكه سفكا أي هرقته ، وقرأ ابن قطيب وابن أبي عبلة وطلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة " ويسفك الدماء " بضم الفاء ، وكذلك الدمع ، وقال المهدوي : لا يستعمل السفك إلا في صب الدم ، وقد يستعمل في نشر الكلام إذا نشره ، قوله : " ولا يعضد " من العضد بالعين المهملة والضاد المعجمة ، وهو القطع ، يقال : عضد الشجرة بالفتح في الماضي يعضد بالكسر في المضارع إذا قطعها بالمعضد ، وهو سيف يمتهن في الشجر ، فهو معضود ، والمعنى لا يعضد أغصانها ، قال المازري : يقال : عضد واستعضد ، وقال الطبري : معنى لا يعضد لا يفسد ولا يقطع ، وأصله من عضد الرجل إذا أصاب عضده ، لكنه يقال منه : عضده يعضده [ ص: 140 ] بالضم في المضارع ، وكذلك يقال إذا أعانه بخلاف العضد بمعنى القطع ، وفي العباب : عضدته أعضده بالضم أي أعنته ، وكذلك إذا أصبت عضده ، وعضدت الشجرة أعضدها بالكسر أي قطعتها ، والمعضد بكسر الميم ما يعضد به الشجرة ، والشجر ما له ساق ، قوله : " ترخص " من باب تفعل من الرخصة ، وهو حكم ثبت لعذر مع قيام المحرم ، قوله : " لا تعيذ " بضم التاء المثناة من فوق من الإعاذة بالذال المعجمة ، أي لا تعصم العاصي من إقامة الحد عليه ، قوله : " ولا فارا " أي ملتجئا إلى الحرم بسبب خوفه من إقامة الحد عليه ، وهو بالفاء والراء المشددة ، ومعناه في الأصل الهارب ، قوله : " بخربة " بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها باء موحدة ، وهي السرقة ، كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي ، أعني في روايته : " ولا فارا بخربة " يعني السرقة ، وقال ابن بطال : الخربة بالضم الفساد ، وبالفتح السرقة ، وقال القاضي : وقد رواه جميع رواة البخاري غير الأصيلي " بخربة " بالخاء المعجمة المفتوحة ، وهو الذي جاء في مسلم ، ورواه الأصيلي بخربة بضم الخاء ، وقيل : بضم الخاء العورة ، وبالفتح يصح على أن المراد الفعلة الواحدة ، وقال الخليل : الخربة بالضم الفساد في الدين مأخوذ من الخارب ، وهو اللص ، ولا يكاد يستعمل إلا في سارق الإبل ، وقال غيره : الخربة بالفتح السرقة والعيب ، وقال الخطابي : الخربة هنا السرقة ، والخرابة سرقة الإبل خاصة كما قال الخليل وأنشد :

                                                                                                                                                                                  والخارب اللص يحب الخاربا



                                                                                                                                                                                  وقال غيره : وأما الحرابة بالحاء المهملة فيقال في كل شيء يقال في الأول : خرب فلان بالمعجمة وفتح الراء إبل فلان ، يخرب خرابة ، مثل كتب يكتب كتابة ، وروي في بعض النسخ " بجزية " بكسر الجيم وسكون الزاي وفتح الياء آخر الحروف ، وفي العباب : الخربة يعني بالفتح السرقة والعيب والبلية ، والخربة أيضا أعني بالفتح الغربال ، والخربة بالضم ثقب الورك وكل ثقب مستدير ، والخرابة بالضم حبل من ليف أو نحوه ، وخرابة الإبرة خرقها ، وخرابة الورك ثقبه ، وقد تشدد راؤها ، والخارب اللص ، قال الأصمعي : هو سارق البعران خاصة ، والجمع الخراب بضم الخاء وتشديد الراء ، قال : والحربة بضم الحاء المهملة الغرارة السوداء ، وقال الليث : الوعاء ، والحربة بفتحتين الطلعة إذا كانت بقشرها .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله : " وهو يبعث البعوث “ جملة اسمية وقعت حالا ، قوله : " ايذن لي " مقول القول ، قوله : " أيها الأمير " أصله يا أيها الأمير ، حذف منه حرف النداء ، قوله : " أحدثك " جملة من الفعل والفاعل والمفعول ، و" قولا " منصوب ; لأنه مفعول ثان ، قوله : " قام به " أي النبي عليه الصلاة والسلام جملة من الفعل والمفعول ، أعني قوله “ به " والفاعل أعني قوله " النبي " وهي في محل النصب ; لأنها صفة لقوله " قولا " ، قوله : " الغد " بالنصب على الظرفية ، وهو اليوم الثاني من فتح يوم مكة ، قوله : " سمعته " جملة من الفعل والمفعول ، وهو الضمير الذي يرجع إلى القول ، وقوله : " أذناي " فاعله ، وأصله أذنان لي ، فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نون التثنية ، فإن قلت : ما موقع هذه الجملة من الإعراب ؟ قلت : النصب ; لأنها صفة أخرى للقول ، قوله : " ووعاه قلبي " عطف على سمعته أذناي من الوعي ، وهو الحفظ ، قوله : " وأبصرته عيناي " أيضا عطف على ما قبله ، وأصله عينان لي ، فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نون التثنية . واعلم أن كل ما في الإنسان اثنان من الأعضاء نحو الأذن والعين فهو مؤنث ، بخلاف الأنف ونحوه ، قوله : " حين " نصب على الظرف لقام وسمعت ، ووعاه وأبصرت ، قوله : " حمد الله " جملة وقعت بيانا لقوله " تكلم " ، قوله : " وأثنى عليه " عطف على حمد من قبيل عطف العام على الخاص ، قوله : " حرمها الله " جملة وقعت في محل الرفع ; لأنها خبر إن ، قوله : " ولم يحرمها الناس " عطف على خبر إن ، قوله : " فلا يحل " الفاء فيه جواب شرط محذوف ، تقديره : إذا كان كذلك فلا يحل ، قوله : " يؤمن بالله " جملة في محل الجر ; لأنها صفة لامرئ ، قوله : " أن يسفك " فاعل لا يحل ، و" أن " مصدرية ، تقديره : فلا يحل سفك دم ، قوله : " بها " أي بمكة ، والباء بمعنى في أي فيها ، كما هي رواية المستملي ، قوله : " دما " مفعول ليسفك ، قوله : " ولا يعضد " بالنصب أيضا ; لأنه عطف على يسفك ، والتقدير : وأن لا يعضد ، فإن قلت : فعلى هذا يكون المعنى لا يحل أن لا يعضد . قلت : " لا " زيدت لتأكيد معنى النفي ، فمعناه لا يحل أن يعضد ، قوله : " بها " أي فيها ، وهكذا في بعض النسخ ، و" شجرة " بالنصب مفعول يعضد ، وذكر بعض شراح المشارق للصغاني أن قوله " لا يعضد " بالرفع ابتداء كلام ، وفاعله ضمير فيه يرجع إلى امرئ ، وعطفه على لا يحل بأن يكون تقديره : إن مكة حرمها الله لا يعضد بها امرؤ شجرة - جائز . قلت : هذا توجيه حسن إن ساعدته الرواية ، قوله : " فإن أحد " إن [ ص: 141 ] للشرط ، وأحد مرفوع بفعل محذوف ، تقديره : فإن ترخص أحد ، ويفسره قوله “ ترخص " وإنما حذف لئلا يجتمع المفسر والمفسر ، وذلك كما في قوله تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك تقديره : وإن استجارك أحد من المشركين ، قوله : " لقتال رسول الله عليه الصلاة والسلام " اللام فيه للتعليل ، قوله : " فقولوا " جواب الشرط فلذلك دخلت فيه الفاء ، قوله : " قد أذن " خبر إن ، وقوله : " ولم يأذن لكم " عطف عليه ، قوله : " وإنما أذن لي " روي بصيغة المجهول والمعلوم ، قوله : " ساعة " نصب على الظرف ، قوله : " حرمتها " بالرفع فاعل عادت ، قوله : " اليوم " نصب على الظرف ، قوله : " وليبلغ " يجوز بكسر اللام وتسكينها ، و" الشاهد " بالرفع فاعله ، و" الغائب " بالنصب مفعوله ، قوله : " يا با شريح " أصله يا أبا شريح ، حذفت الهمزة للتخفيف ، قوله : " لا تعيذ " جملة في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي مكة لا تعيذ ، قوله : " عاصيا " مفعول لا تعيذ ، ويروى بالياء آخر الحروف أي الحرم لا يعيذ عاصيا ، قوله : " ولا فارا بدم " عطف على عاصيا ، والباء في بدم للمصاحبة أي مصاحبا بدم وملتبسا به ، قوله : " ولا فارا بخربة " عطف على ما قبله ، والباء فيه للسببية .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله : " لعمرو بن سعيد " بفتح العين ، وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي ، يعرف بالأشدق ، ليست له صحبة ، ولا كان من التابعين بإحسان ، ووالده مختلف في صحبته ، وقال ابن الأثير : يكنى أبا أمية ، وكان أمير المدينة ، وغزا ابن الزبير رضي الله عنهما ، ثم قتله عبد الملك بن مروان بعد أن آمنه ، ويقال : إنه الذي رأى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وروى عن عمر وعثمان ، روى عنه بنوه وأمية وسعيد . قلت : كان قتله سنة سبعين من الهجرة ، قوله : " وهو يبعث البعوث إلى مكة " يعني كان عمرو بن سعيد يبعث الجند إلى مكة لقتال ابن الزبير ، وذلك أنه لما توفي معاوية توجه يزيد إلى عبد الله بن الزبير يستدعي منه بيعته ، فخرج إلى مكة ممتنعا من بيعته ، فغضب يزيد ، وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم بأخذ بيعة عبد الله ، فبايعه ، وأرسل إلى يزيد بيعته ، فقال : لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق ، فأتى ابن الزبير ، وقال : أنا عائذ بالبيت ، فأبى يزيد ، وكتب إلى عمرو بن سعيد أن يوجه إليه جندا ، فبعث هذه البعوث ، قال ابن بطال : وابن الزبير رضي الله عنهما عند علماء السنة أولى بالخلافة من يزيد وعبد الملك ; لأنه بويع لابن الزبير قبل هؤلاء ، وهو صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال مالك : ابن الزبير أولى من عبد الملك .

                                                                                                                                                                                  قوله : " من يوم الفتح " يعني فتح مكة ، وكان في عشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة ، قوله : " سمعته أذناي " إلى آخره - إشارة منه إلى مبالغته في حفظه من جميع الوجوه ، ففي قوله : " سمعته أذناي " نفي أن يكون سمعه من غيره كما جاء في حديث النعمان بن بشير " وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه " ، وقوله : " ووعاه قلبي " تحقيق لفهمه والتثبت في تعقل معناه ، وقوله : " وأبصرته عيناي " زيادة في تحقق السماع والفهم عنه بالقرب منه والرؤية وأن سماعه منه ليس اعتمادا على الصوت دون حجاب ، بل الرؤية والمشاهدة ، والهاء في قوله : " تكلم به " عائدة على قوله : " أحدثك " ، قوله : " حرمها الله " إما أن يراد به مطلق التحريم فيتناول كل محرماتها ، وإما أن يراد به ما ذكر بعده من سفك الدم وعضد الشجر ، ويقال : معناه تفهيم المخاطبين بعظيم قدر مكة بتحريم الله إياها ، ونفي ما تعتقده الجاهلية وغيرهم من أنهم حرموا وحللوا ، كما حرموا أشياء من قبل أنفسهم ، وأكد ذلك المعنى بقوله : " ولم يحرمها الناس " أي فتحريمها ابتداء أي من غير سبب يعزى لأحد ، لا مدخل فيه لا لنبي ولا لعالم ، ثم بين التحريم بقوله : " فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما " إلى آخره ; لأن من آمن بالله لزمته طاعته ومن آمن بالله واليوم الآخر لزمه القيام بما وجب عليه واجتناب ما نهي عنه تخلصا خوف الحساب عليه ، ويقال : معنى " ولم يحرمها الناس " ليس من محرمات الناس حتى لا يعتد به ، بل هي من محرمات الله ، أو معناه إن تحريمها بوحي الله تعالى ، لا أنه اصطلح الناس على تحريمها بغير إذن الله تعالى وأمره ، قوله : " فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " معناه إن قال أحد بأن ترك القتال عزيمة ، والقتال رخصة يتعاطى عند الحاجة مستدلا بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، فقولوا له : ليس الأمر كذلك ، فإن الله أذن لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن له فيها ساعة من نهار يعني في إراقة دم كان مباحا خارج الحرم ، والحرمة كانت للحرم في إراقة دم محرم الإراقة ، فكان الحرم في حقه -صلى الله عليه وسلم- في تلك الساعة بمنزلة الحل ، ثم عادت حرمتها كما كانت ، وإنما قال : فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل : لقتالي بيانا لاستظهار الترخص ، فإن الرسول المبلغ للشرائع إذا فعل ذلك كان دليلا على جواز الترخص ، وإنما التفت ثانيا بقوله : " وإنما أذن لي " ولم يقل : أذن له بيانا لاختصاصه بذلك بالإضافة إلى ضميره ، كما في قول امرئ القيس : [ ص: 142 ]

                                                                                                                                                                                  وذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسود



                                                                                                                                                                                  قوله : " ساعة من نهار " أراد به مقدارا من الزمان من يوم الفتح ، وهو زمان الدخول فيها ، ولا يعلم من الحديث إباحة عضد الشجر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الساعة ، قوله : " حرمتها " أي الحكم الذي في مقابلة الإباحة المستفادة من لفظ الإذن ، ولفظ اليوم يطلق ويراد به يومك الذي أنت فيه ، أي من يوم وقت طلوع الشمس إلى غروبها ، ويطلق ويراد به الزمان الحاضر المعهود ، وقد يكون أكثر من يوم واحد وأقل ، وكذا حكم الأمس ، فإن قلت : ما المراد به ها هنا ؟ قلت : الظاهر أنه الحاضر ، ويحتمل أيضا المعنى الآخر أي ما بين الطلوع إلى الغروب ، وتكون حينئذ اللام للعهد من يوم الفتح ; إذ عود حرمتها كان في يوم الفتح لا في غيره الذي هو يوم صدور هذا القول ، وكذا اللام في الأمس يكون معهودا من أمس يوم الفتح ، قوله : " ما قال عمرو " أي في جوابك ، فقال أبو شريح : قال أي عمرو : أنا أعلم منك ، قال ابن بطال : ما قاله ليس بجواب ; لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقام عليه ، وإنما أنكره عليه أبو شريح بعثه الخيل إلى مكة واستباحته حرمتها بنصب الحرب عليها ، فحاد عمرو عن الجواب ، واحتج أبو شريح بعموم الحديث وذهب إلى أن مثله لا يجوز أن يستباح نفسه ، ولا ينصب الحرب عليها بقتال بعدما حرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال الطيبي : لما سمع عمرو ذلك رده بقوله : " أنا أعلم " ويعني : إن صح سماعك وحفظك لكن ما فهمت المعنى المراد من المقاتلة ، فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح عنوة ، وليس بسبب قتل من استحقه خارج الحرم ، والذي أنا بصدده من القبيل الثاني لا من الأول ، فكيف تنكر علي ؟ فهو من القول بالموجب يعني الجواب مطابق ، وليس مجاوبة من غير سؤاله . قلت : كونه جوابا على اعتقاد عمرو في ابن الزبير والله أعلم ، وقد شنع عليه ابن حزم في ذلك في المحلى في كتاب الجنايات ، فقال : لا كرامة للئيم الشيطان الشرطي الفاسق ، يريد أن يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وهذا الفاسق هو العاصي لله ولرسوله ومن والاه أو قلده ، وما حامل الخزي في الدنيا والآخرة إلا هو ومن أمره وصوب قوله ، وكأن ابن حزم إنما ذكر ذلك ; لأن عمرا ذكر ذلك عن اعتقاده في ابن الزبير رضي الله عنهما ، وقال ابن بطال : اختلف العلماء في الصحابي إذا روى الحديث ، هل يكون أولى بتأويله ممن يأتي بعده أم لا ، فقالت طائفة : تأويل الصحابي أولى ; لأنه الراوي للحديث ، وهو أعلم بمخرجه وسببه ، وقال آخرون : لا يلزم تأويله إذا لم يصب التأويل ، وقال المازري في شرح كتاب البرهان : مخالفة الراوي لما رواه على أقسام ; مخالفة بالكلية ، ومخالفة ظاهرة على وجه التخصيص ، وتأويل محتمل ، أو مجمل . وكل هذه الأقسام فيها الخلاف . قال إمام الحرمين : مذهب الشافعي اتباع روايته لا عمله ، ومذهب أبي حنيفة اتباع عمله لا روايته ، فإذا كان الحديث عاما فهل يخص بعمل راويه ، وكذا إذا كان لفظ الحديث مجملا فصرفه الراوي إلى أحد محتملاته ، هل يصار إلى مذهبه ؟ ففي ذلك خلاف ، وقال الخطيب : ظاهر مذهب الشافعي أنه إن كان تأويل الراوي يخالف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث ، وإن كان أحد محتملاته الظاهرة رجع إليه ، ومثله إمام الحرمين بقوله -صلى الله عليه وسلم- : " الذهب بالذهب ربا إلا ها وها " حمله ابن عمر رضي الله عنهما على التقابض في المجلس وحديث ابن عمر " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " حمله ابن عمر على فرقة الأبدان ، وذكر الحنفية حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ولوغ الكلب سبعا وأن مذهب أبي هريرة جواز الاقتصار على الثلاث وأن السبع مندوبة ، وقال المازري وغيره : ينبغي أن يعد حديث أبي هريرة من باب المخالفة التي هي بمعنى النسخ لا بمعنى التخصيص ، فإن الاقتصار على الثلاث مخالفة للعدد المحدود ، وهو السبع . قلت : إنما خالف أبو هريرة العدد السبع لثبوت انتساخه عنده ، والحمل عليه تحسين الظن في حق الصحابي ، وقال المازري : وينبغي أن يكون مثله حديث عائشة رضي الله عنها وقول أبي القعيس لها : أتحتجبين مني وأنا عمك ؟ قالت : كيف ذلك ؟ فقال : أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي ، قالت : فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقال : " صدق أفلح ، ايذني له " فروته وأفتته بخلافه ، فكان يدخل عليها من أرضعه أخواتها وبنات أختها ، ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها ، ولم يحرم بلبن الفحل هي وابن عمر وابن الزبير والنخعي وابن المسيب والقاسم وأبو سلمة وأهل الظاهر ، واحتجوا بأن عائشة روته ولم تعمل به ، ولم يأخذ به الكوفيون ولا الشافعي ، ولا التفتوا إلى تأويلها ، وأخذوا بحديثها ، وأفتوا بتحريم لبن [ ص: 143 ] الفحل ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في بريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرها بعد أن اشترتها عائشة ، وأعتقتها ، وأن ابن عباس يفتي أن بيعها طلاق ، وما رواه مخالف لفتياه ; لأنه لو كان بيعها طلاقا لم يخير وهي مطلقة ، وروت عائشة قالت : فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، وكانت عائشة تتم فترك الكوفيون والقاضي إسماعيل قولها وأخذوا بحديثها ، وقالوا : قصر الصلاة في السفر فريضة ، ورواه أشهب عن مالك ، وروى عنه أبو مصعب أنه سنة ، وذهب جماعة والشافعي إلى التخيير بين القصر والإتمام ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام ، وهو على وجوه :

                                                                                                                                                                                  الأول : في قول أبي شريح " ائذن لي أيها الأمير " حسن التلطف في الإنكار ، لا سيما مع الملوك فيما يخالف مقصودهم ; لأن التلطف بهم أدعى لقبولهم ، لا سيما من عرف منهم بارتكاب هواه وأن الغلظة عليهم قد تكون سببا لإثارة فتنة ومعاندة .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه وفاء أبي شريح رضي الله عنه بما أخذه الله على العلماء من الميثاق في تبليغ دينه ونشره حتى يظهر ، وقد روى ابن إسحاق في آخره أنه قال له عمرو بن سعيد : نحن أعلم بحرمتها منك ، فقال له أبو شريح : إني كنت شاهدا وكنت غائبا ، وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ شاهدنا غائبنا ، وقد أبلغتك ، فأنت وشأنك ، وقال ابن بطال : كل من خاطبه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بتبليغ العلم من كان في زمنه فالتبليغ عليه متعين ، وأما من بعدهم فالتبليغ عليهم فرض كفاية . قلت : فيه نظر ; فقد ذكر أبو بكر بن العربي أن التبليغ عن النبي عليه الصلاة والسلام فرض كفاية ، إذا قام به واحد سقط عن الباقين ، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه الوحي والحكم لا يبوح به في الناس ، لكن يخبر به من حضره ثمة على لسان أولئك إلى من وراءهم قوما بعد قوم ، قال : فالتبليغ فرض كفاية ، والإصغاء فرض عين ، والوعي والحفظ يترتبان على معنى ما يستمع به ، فإن كان ما يخصه تعين عليه ، وإن كان يتعلق به وبغيره كان العمل فرض عين ، والتبليغ فرض كفاية ، وذلك عند الحاجة إليه ، ولا يلزمه أن يقوله ابتداء ، ولا بعده ، فقد كان قوم من الصحابة يكثرون الحديث : قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فحبسهم عمر رضي الله عنه حتى مات وهم في سجنه ، هذا آخر كلامه .

                                                                                                                                                                                  الثالث : استدل بقوله : " لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر ... " الحديث - بعضهم على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ، والصحيح عند الأصوليين خلافه ، وأجيب بأنه لا مفهوم له ، وقد استعمل منطوقه بتحريم القتال على المؤمن فيها .

                                                                                                                                                                                  الرابع : استدل بعضهم بقوله : " أن يسفك بها دما " على تحريم القتال بمكة ، وهو الذي يدل عليه السياق ، وهو قوله : " فإن أحد ترخص " إلخ ، وقوله في بعض طرق الحديث : " وإنه لم يحل القتال لأحد قبلي " والضمير في إنه للشأن ، وهذه الأحاديث ظاهرها يدل على أن حكم الله تعالى أن لا يقاتل من كان بمكة ، ويؤمن من استجار بها ، ولا يتعرض له ، وهو قول قتادة وغيره في تفسير قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا وكانت عادة العرب احترام مكة ، وقال الماوردي : من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله ، فإن بغوا على أهل العدل قال بعض الفقهاء : يحرم قتالهم ، ويضيقوا عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ، وقال جمهور الفقهاء : يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم إلا بالقتال ; لأن قتال أهل البغي من حقوق الله تعالى التي لا تجوز إضاعتها ، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها ، قال النووي : هذا هو الصواب ، وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث في الأم وأجاب الشافعي عن الأحاديث المذكورة بأن التحريم يعود إلى نصب القتال ، وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا لم يمكن إصلاح الحال بدونه ، بخلاف ما إذا تحصن الكفار ببلد آخر ، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه بكل شيء ، وقال القفال من أصحاب الشافعي في شرح التلخيص في أول كتاب النكاح : لا يجوز القتال بمكة ، ولو تحصنت جماعة من الكفار فيها لم يجز قتالهم ، قال النووي : الذي قاله القفال غلط نبهت عليه . قلت : بل هو موافق للقول الأول الذي حكاه الماوردي ، وظاهر الحديث يعضده ، فإن قوله : " لا يحل لأحد " نكرة في سياق النفي ، فتعم .

                                                                                                                                                                                  الخامس : استدل أبو حنيفة بقوله : " لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما " على أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل ; لأنه عام يدخل فيه هذه الصورة ، وحكى ابن بطال اختلاف العلماء فيمن أصاب حدا من قتل أو زنا أو سرقة ، فقال ابن عباس وعطاء والشعبي : إن أصابه في الحرم أقيم عليه الحد ، وإن أصابه في غير الحرم لا يجالس ولا يدانى حتى يخرج ، فيقام عليه ; لأن الله تعالى جعله آمنا دون غيره ، فقال : ومن دخله كان آمنا وقال آخرون : إذا أصابه في غير الحرم ، ثم لجأ إليه يخرج ويقام عليه الحد ، ولم يحضروا مجالسته ولا مسامعته ، وهو مذهب ابن الزبير والحسن ومجاهد ، وقال آخرون : [ ص: 144 ] لا يمنع من إقامة الحد فيه ، والملتجئ إليه يقام عليه الحد الذي وجب عليه قبل أن يلجأ إليه ، وهو مذهب عمرو بن سعيد كما ذكر في الحديث ، وحكى القرطبي أن ابن الجوزي حكى الإجماع فيمن جنى في الحرم أنه يقاد منه ، وفيمن جنى خارجه ثم لجأ إليه ، عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا يقام عليه .

                                                                                                                                                                                  قلت : مذهب مالك والشافعي : يقام عليه .

                                                                                                                                                                                  ونقل ابن حزم عن جماعة من الصحابة المنع ، ثم قال : ولا مخالف لهم من الصحابة ، ثم نقل عن جماعة من التابعين موافقتهم ، ثم شنع على مالك والشافعي ، فقال : قد خالفا في هذا هؤلاء الصحابة والكتاب والسنة . واحتج بعضهم لمذهبهما بقصة ابن خطل ، وأجيب عنها بأوجه :

                                                                                                                                                                                  أحدها : أنه ارتد وقتل مسلما ، وكان يهجو النبي عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أنه لم يدخل في الأمان ، فإنه استثناه ، وأمر بقتله وإن وجد معلقا بأستار الكعبة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أنه كان ممن قاتل . وأجاب بعضهم بأنه إنما قتل في تلك الساعة التي أبيحت له ، وهو غريب ; فإن ساعة الدخول حين استولى عليها وأذعن أهلها ، وقتل ابن خطل بعد ذلك ، وبعد قوله : " من دخل المسجد فهو آمن " وقد دخل ، لكنه استثناه مع جماعة غيره .

                                                                                                                                                                                  السادس : في قوله : " فإن أحد ترخص لقتال رسول الله عليه الصلاة والسلام " دليل على أن مكة فتحت عنوة ، وهو مذهب الأكثرين ، قال القاضي عياض : وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي ، لكن من رآها عنوة يقول : إن النبي عليه الصلاة والسلام من على أهلها وسوغهم أموالهم ودورهم ، ولم يقسمها ، ولم يجعلها فيئا ، قال أبو عبيد : ولا يعلم مكة يشبهها شيء من البلاد ، وقال الشافعي وغيره : فتحت صلحا ، وتأولوا الحديث بأن القتال كان جائزا له عليه الصلاة والسلام لو احتاج إليه ، ويضعف هذا التأويل قوله في الحديث " فإن أحد ترخص لقتال رسول الله عليه الصلاة والسلام " فإنه يدل على وجود القتل ، وقوله : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " وكذلك غيره من الناس المعلق على أشياء مخصوصة ، وقال الماوردي : عندي أن أسفل مكة دخله خالد بن الوليد رضي الله عنه عنوة ، وأعلاها دخله الزبير بن العوام رضي الله عنه صلحا ، ودخلها الشارع من جهته ، فصار حكم جهته الأغلب .

                                                                                                                                                                                  السابع : في قوله : " ولا يعضد بها شجرة " دليل على حرمة قطع شجر الحرم ، وفي رواية " ولا يعضد شوكه " ، وفي رواية " ولا يخبط شوكها " قال النووي : اتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لا ينبتها الآدميون في العادة ، وعلى تحريم خلاها ، واختلفوا فيما ينبته الآدميون ، وكذلك اختلفوا في ضمان الشجرة إذا قلعها ، فقال مالك : يأثم ، ولا فدية عليه ، وقال الشافعي : الواجب في الكبيرة بقرة ، وفي الصغيرة شاة ، كذا جاء عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم ، وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة : الواجب في الجميع القيمة ، ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلأ الحرم ، وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يجوز ، والكلأ والعشب اسم للرطب ، والحشيش اسم لليابس منه ، والكلأ يطلق عليهما ، وقوله : " ولا يعضد شوكه " دليل على تحريم قطع الشوك المؤذي وغيره ، وقد أخذ به بعضهم عملا بعموم الحديث ، وقال بعضهم : لا يحرم الشوك لأذاه تشبيها بالفواسق الخمس ، وخصوا الحديث بالقياس ، قال الخطابي : أكثر العلماء على إباحة الشوك ، ويشبه أن يكون المحظور منه ما ترعاه الإبل ، وهو ما رق منه دون الصلب الذي لا ترعاه ، فيكون ذلك كالحطب وغيره . قلت : صحح المتولي من الشافعية التحريم مطلقا ، والقياس المذكور ضعيف لقيام الفارق ، وهو أن الفواسق الخمس تقصد الأذى بخلاف الشوك .

                                                                                                                                                                                  الثامن : في قوله : " وليبلغ الشاهد الغائب " صراحة بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام ، وهو إجماع ، التاسع : أن الحديث يدل صريحا على تحريم الله مكة ، وأبعد من قال : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من افتتح ذلك ، والصواب أنها محرمة من يوم خلق الله السماوات والأرض .

                                                                                                                                                                                  العاشر : فيه النصيحة لولاة الأمور وعدم الغش لهم والإغلاظ عليهم .

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر : فيه ذكر التأكيد في الكلام .

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر : فيه تقديم الحمد على المقصود .

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر : فيه إثبات القيمة .

                                                                                                                                                                                  الرابع عشر : فيه اختصاص الرسول عليه الصلاة والسلام بخصائص .

                                                                                                                                                                                  الخامس عشر : فيه جواز القياس عليه عليه الصلاة والسلام لولا العلم بكون الحكم من خصائصه .

                                                                                                                                                                                  السادس عشر : فيه جواز النسخ ; إذ نسخ الإباحة للرسول عليه الصلاة والسلام بالحرمة .

                                                                                                                                                                                  السابع عشر : فيه جواز المجادلة .

                                                                                                                                                                                  الثامن عشر : فيه مخالفة التابعي للصحابي بالاجتهاد .

                                                                                                                                                                                  التاسع عشر : فيه فضل أبي شريح لاتباعه أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتبليغ عنه .

                                                                                                                                                                                  العشرون : فيه وجوب الإنكار من العالم على الأمير إذا رأى أنه غير شيئا من الدين وإن لم يسأل عنه .

                                                                                                                                                                                  الحادي والعشرون : في قوله : " ووعاه قلبي " دليل على أن العقل محله القلب لا الدماغ ، وهو قول الجمهور ; لأنه لو كان محله الدماغ لقال : ووعاه [ ص: 145 ] رأسي ، وفي المسألة قول ثالث : إنه مشترك بينهما .

                                                                                                                                                                                  الثاني والعشرون : فيه أن التحليل والتحريم من عند الله ، لا مدخل لبشر فيه ، وأن ذلك لا يعرف إلا منه فعلا وقولا وتقريرا .

                                                                                                                                                                                  الأسئلة والأجوبة : منها ما قيل : إن قوله : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس " يعارضه قوله عليه السلام : " إن إبراهيم حرم مكة " الحديث ، وأجيب بأن نسبة الحكم لإبراهيم على معنى التبليغ ، فيحتمل أن تحريم إبراهيم لها بإعلام الله تعالى أنه حرمها ، فتحريمه لها بتحريم الله لا باجتهاده ، أوكل الله إليه تحريمها ، فكان عن أمر الله ، فأضيف إلى الله مرة لذلك ، ومرة لإبراهيم ، أو أنه دعا إليها ، فكان تحريم الله لها بدعوته ، قال الماوردي وغيره من العلماء : قيل : إن مكة ما زالت محرمة من يوم خلق الله السماوات والأرض ، وقيل : كانت حلالا إلى زمن إبراهيم عليه السلام ، والأول قول الأكثرين ، وأوفق للحديث ، وأجيب عن حديث إبراهيم بأن التحريم كان خفيا ، ثم أظهره إبراهيم عليه السلام ، وقال أصحاب القول الثاني : إن معنى الحديث أن الله كتب في اللوح المحفوظ وغيره يوم خلق السماوات والأرض : إن إبراهيم سيحرم مكة بإذن الله تعالى . ومنها : ما قيل : لم خصص من بين ما يجب به الإيمان هذين اللفظين الإيمان بالله واليوم الآخر أي القيامة ؟ أجيب بأن الأول إشارة إلى المبدأ ، والثاني إلى المعاد ، والبواقي داخلة تحتهما . ومنها : ما قيل : لم سمي يوم القيامة اليوم الآخر ؟ أجيب بأنه لا ليل بعده ، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل . ومنها : ما قيل : هل أحل للنبي عليه الصلاة والسلام في الساعة التي أحلت له مكة سائر الأشياء ؟ أجيب بأنه أحلت له في تلك الساعة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم الله على الناس .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية