الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4082 - حدثنا نصر بن مرزوق ، قال : ثنا الخصيب ، قال : ثنا وهيب ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .

                                                        فهذا ابن عباس يوجب على من قدم شيئا من نسكه أو أخره دما ، وهو أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر من أمر الحج إلا قال : " لا حرج " .

                                                        فلم يكن معنى ذلك عنده معنى الإباحة في تقديم ما قدموا ، ولا في تأخير ما أخروا مما ذكرنا ، إذ كان يوجب في ذلك دما .

                                                        ولكن كان معنى ذلك عنده ، على أن الذي فعلوه في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان على الجهل منهم بالحكم فيه ، كيف هو ؟

                                                        فعذرهم بجهلهم ، وأمرهم في المستأنف أن يتعلموا مناسكهم .

                                                        وتكلم الناس بعد هذا في القارن إذا حلق قبل أن يذبح .

                                                        فقال أبو حنيفة رحمه الله : ( عليه دم ) وقال : زفر رضي الله عنه : ( عليه دمان ) .

                                                        وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : ( لا شيء عليه ) ، واحتجا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين سألوه عن ذلك على ما قد روينا في الآثار المتقدمة ، وبجوابه لهم أن لا حرج عليهم في ذلك .

                                                        [ ص: 239 ] وكان من الحجة عليهما في ذلك لأبي حنيفة وزفر رحمهما الله ، ما ذكرنا من شرح معاني هذه الآثار .

                                                        وحجة أخرى ، وهي أن السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم ، هل كان قارنا أو مفردا أو متمتعا .

                                                        فإن كان مفردا فأبو حنيفة رحمه الله وزفر ، لا ينكران أن يكون لا يجب عليه في ذلك دم ؛ لأن ذلك الذبح الذي قدم عليه الحلق ذبح غير واجب ، ولكن كان أفضل له أن يقدم الذبح قبل الحلق ، ولكنه إذا قدم الحلق أجزأه ، ولا شيء عليه .

                                                        وإن كان قارنا ، أو متمتعا ، فكان جواب للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك على ما ذكرنا .

                                                        فقد ذكرنا عن ابن عباس في التقديم في الحج والتأخير ، أن فيه دما ، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا حرج " لا يدفع ذلك .

                                                        فلما كان قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : " لا حرج " لا ينفي عن ابن عباس رضي الله عنهما وجوب الدم ، كان كذلك أيضا لا ينفيه ، عند أبي حنيفة وزفر ، رحمهما الله ، وكان القارن ذبحه ذبح واجب عليه ، يحل به .

                                                        فأردنا أن ننظر في الأشياء التي يحل بها الحاج إذا أخرها حتى يحل ، كيف حكمها ؟

                                                        فوجدنا الله عز وجل قد قال : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، فكان المحصر يحلق بعد بلوغ الهدي محله ، فيحل بذلك ، وإن حلق قبل بلوغه محله ، وجب عليه دم ، وهذا إجماع .

                                                        فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك ، القارن إذا قدم الحلق قبل الذبح ، الذي يحل به أن يكون عليه دم ، قياسا ونظرا على ما ذكرنا من ذلك .

                                                        فبطل بهذا ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد ، رحمهما الله ، وثبت ما قال أبو حنيفة رحمه الله ، أو ما قال زفر رحمه الله .

                                                        فنظرنا في ذلك ، فإذا هذا القارن قد حلق رأسه في وقت ، الحلق عليه حرام ، وهو في حرمة حجة ، وفي حرمة عمرة .

                                                        وكان القارن ما أصاب في قرانه ، مما لو أصابه وهو في حجة مفردة ، أو عمرة مفردة ، وجب عليه دم ، فإذا أصابه وهو قارن ، وجب عليه دمان ، فاحتمل أن يكون حلقه أيضا قبل وقته ، يوجب عليه أيضا دمين ، كما قال زفر .

                                                        فنظرنا في ذلك ، فوجدنا الأشياء التي توجب على القارن دمين ، فيما أصاب في قرانه هي الأشياء التي لو أصابها وهو في حرمة حجة ، أو في حرمة عمرة وجب عليه دم .

                                                        فإذا أصابها في حرمتهما وجب عليه دمان ، كالجماع ، وما أشبهه ، وكان حلقه قبل أن يذبح ، لم يحرم عليه بسبب العمرة خاصة ، ولا بسبب الحج خاصة ، إنما وجب عليه بسببهما ، وبحرمة الجمع بينهما ، لا بحرمة الحجة خاصة ، ولا بحرمة العمرة خاصة .

                                                        فأردنا أن ننظر في حكم ما يجب بالجمع ، هل هو شيئان أو شيء واحد ؟ فنظرنا في ذلك ، فوجدنا الرجل إذا أحرم بحجة مفردة ، أو بعمرة مفردة ، لم يجب عليه شيء ، وإذا [ ص: 240 ] جمعهما جميعا ، وجب عليه لجمعه بينهما شيء لم يكن يجب عليه في إفراده كل واحدة منهما ، فكان ذلك الشيء دما واحدا .

                                                        فالنظر على ذلك ، أن يكون كذلك الحلق ، قبل الذبح الذي منع منه الجمع بين العمرة والحج ، فلا يمنع منه واحدة منهما ، لو كانت مفردة أن يكون الذي يجب به فيه دم واحد .

                                                        فيكون أصل ما يجب على القارن في انتهاكه الحرم في قرانه ، أن ننظر فيما كان من تلك الحرم ، تحرم بالحجة خاصة ، وبالعمرة خاصة .

                                                        فإذا جمعتا جميعا ، فتلك الحرمة محرمة لشيئين مختلفين ، فيكون على من انتهكها كفارتان .

                                                        وكل حرمة لا تحرمها الحجة على الانفراد ، ولا العمرة على الانفراد ، إنما يحرمها الجمع بينهما ، فإذا انتهكت ، فعلى الذي انتهكها دم واحد ؛ لأنه انتهك حرمة حرمت عليه بسبب واحد .

                                                        فهذا هو النظر في هذا الباب وهو قول أبي حنيفة ، وبه نأخذ .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية