الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وتحقيق هذا الباب أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يعلم افتراقهما، وإما أن لا يعلم واحد منهما، ونعني بالعلم ما يسميه الفقهاء علما، وهو أن يقوم الدليل على التماثل والاستواء، أو الاختلاف والافتراق، أو لا يقوم على واحد منهما. [ ص: 193 ]

فالأول متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم أن العلة باطلة، وهذا مثل دعوى من يدعي أن الموجب للنفقة نفس الإيلاد، أو نفس الرحم المحرم، أو مطلق الإرث بفرض أو تعصيب، ويقول: إذا اجتمع الجد والجدة كانت النفقة عليهما. فإنه لما ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمع الأبوان كانت النفقة على الأب، علم أن العصبة في ذلك يقدم على غيره، وإن كان وارثا بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وعلم أن قوله وعلى الوارث مثل ذلك هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجودا، لأن عمر جبر بني عم منفوس على نفقته .

وهذه الآية صريحة في إيجاب نفقة الصغير على الوارث العاصب، وقال بها جمهور السلف . وليس لمن خالفها حجة أصلا. ولكن ادعى بعضهم أنها منسوخة، وقيل ذلك عن مالك . وبعضهم [ ص: 194 ] قال: عليه أن لا يضار"، فتركها بدعوى نسخ أو تأويل هو من نوع تحريف الكلم عن مواضعه لغير معارض لها أصلا مما يعلم بطلانه كل من تدبر ذلك.

وإذا كانت الأم أقرب الناس إليه لا نفقة عليها مع الأب، وهي تحوز الثلث معه، فأن لا يجب على الجدة مع الجد وهي تحوز السدس أولى وأقوى.

والقائلون بذلك يقولون: القياس يقتضي وجوب ثلثها على الأم، لكن ترك ذلك للنص.

فيقال: أي قياس معكم؟ إنما يكون قياسا لو كان معهم نص يتناول هذه الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النص بهذا يوجب إلحاق نظائره به، فيقاس كل عاصب معه فرض أوجبه من وراث الفرض على الأب مع الأم.

وكذلك إسلام النقدين في الموزونات يقدح في كون العلة الوزن، ولم يثبت ذلك بنص بين، بل بعلة مستنبطة قد عارضها ما هو [ ص: 195 ] أقوى منها، فإن لم يبين الفرق بين النقدين وغيرهما وإلا كان انتقاضها مبطلا لها.

فانتقاض العلة يوجب بطلانها قطعا إذا لم تختص صورة النقض بفرق معنوي قطعا، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين، ثم يخالف بين حكميهما، بل اختلاف الحكمين دليل على اختلاف الصورتين في نفس الأمر. فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك دليلا على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يعلم بمجيء الفرق. وإن علم أنه سوى بينهما كان ذلك دليلا على استوائهما. وإن لم يعلم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك .

وهذا معنى قول إياس بن معاوية: "قس للقضاء ما استقام [ ص: 196 ] القياس، فإذا فسد فاستحسن" . فأمر بمخالفة القياس إذا تغير الأمر بحصول مفاسد تمنع القياس.

التالي السابق


الخدمات العلمية