الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 318 ] فصل

وأما ميراث الأخوات مع البنات، وأنهن عصبة كما قال جمهور الصحابة والعلماء - فقد دل عليه القرآن والسنة أيضا، فإن قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد يدل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد أو لم يكن، فكان ذكر الولد تدليسا وعبثا مضرا، وكلام الله منزه عن ذلك.

وليس هذا من المفهوم الذي هو تخصيص أحد النوعين [ ص: 319 ] بالذكر، بل هو من باب تخصيص اللفظ العام وتقييده مع أن الحكم يتناول جميع الصور، والتخصيص بعد التعميم ليس بمنزلة التخصيص المبتدأ، فإن ذلك قد يقصد به ذكر ذلك النوع دون الآخر. وأما ذكر الجنس الذي يعمهما والحاجة داعية إلى بيان الحكم العام، وليس في هذا التقييد مقصود، فهنا يمتنع أن يذكر التخصيص إلا لاختصاصه بالحكم.

ومن ذلك قوله تعالى: ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وقوله: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، وإذا علم أنها مع الولد لا ترث النصف، فالولد إما ذكر وإما أنثى. أما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى، بدليل قوله: وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، [فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد] . والإرث المطلق هو حوز جميع المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يحز المال بل إما أن يسقط وإما أن يأخذ بعضه. فيبقى إذا كان لها ولد: فإما ابن، وإما بنت. فالقرآن قد بين أن البنت إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر، إذا [ ص: 320 ] لم يكن إلا بنت وأخ.

ولما كان فتيا الله إنما هي في الكلالة، والكلالة من لا والد له ولا ولد، علم أن من له ولد ووالد، ليس هذا حكمه.

ولما كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز مال الأخت فيكون لها عصبة، كان الأب أن يكون عصبة بطرق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق الأولى.

وقد قال تعالى: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ، فإذا كان قد جعل مواليهم، واحدهم مولى؛ وهو الذي يتولى المرء، فيكون مولى ويرث ماله، ويكون من أولي الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إذ كان لكل أحد قد جعل الله عصبته ترث ماله مما ترك، وهم: الوالدان والأقربون.

قال طائفة من المفسرين : أي: من المال الذي ترك.

والموالي: هم الوالدان والأقربون. والموالي يتضمن معنى ورثة، والمعنى: لكل جعلنا ورثة يرثن مما ترك، هم: الوالدان [ ص: 321 ] والأقربون.

وإذا كان قد جعل الوالدين والأقربين موالي، فالبنون أولى أن يكونوا موالي. ولهذا لما كانوا في أول الأمر إنما يرث الرجل ولده، فرض الله الوصية للوالدين والأقربين بقوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين . فلما فرض الوصية لهما دل ذلك على أن الميراث للولد دونهما، وكان ذلك هو الحكم قبل نزول آية الفرائض، فعلم أن الولد أولى من الأبوين والأقربين، وأن الابن أولى أن يكون عصبة من الأب.

وأيضا فإن الله سبحانه قال: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ، فأوجب الوصية للوالدين والأقربين لما كان لا يرث أحدهم إلا ولده، وكان ميراث الولد وأخذ الأب مال ابنه كله معروفا عندهم في الجاهلية، ففرض الله الفرائض لمن سماه. وأما إرث الابن مال أبيه إذا لم يكن غيره، فكان من الأحكام الظاهرة الواضحة التي كانوا عليها في الجاهلية، وأقرهم عليها في الإسلام، ووكد ميراث الابن، حتى ورث الابن سواء كان صغيرا أو كبيرا.

وكذلك سائر الورثة سوى بين الصغير والكبير، وكانوا في [ ص: 322 ] الجاهلية- أو من كان منهم- لا يورثون إلا الكبير .

ودل أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" أن ما بقي بعد الفرائض فلا يرثه إلا العصبة، وقد علم أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الإخوة.

وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ولد ابن الأم يتوارثون دون بني العلات . فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن، وكذلك كل بني أب هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربهم إلى الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استووا في الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان لأب.

فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور الولد يكون الابن عاصبا، يحجب الأخت ما يحجب أخاها، بقي حال الأخت مع إناث الولد، ليمس في القرآن ما ينفي [ ص: 323 ] ميراث الأخت في هذه الحال. وإنما ينفي أن يكون لها النصف مع الولد، كما يكون مع [عدم] الولد.

بقي كذا مع البنت: إما أن تسقط، وإما أن يكون لها النصف، وإما أن تكون عصبة:

ولا وجه لسقوطها فإنها لا تزاحم البنت، وأخوها لا يسقط، فلا تسقط هي، ولو سقطت هي لسقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يسقط القريب.

ولا يكون لها النصف فرضا كما يكون لها مع الزوج، لأن الله عز وجل إنما جعل لها النصف معه إذا لم يكن له ولد، ولأنها كانت تساوي البنت مع اجتماعها، والبنت أولى منها، فلا تساويها. وأيضا فإنه لو فرض لها النصف لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفرائض، مثل: زوجة وبنت وأخت، فكان يكون للزوجة الثمن، ولكل منهما النصف، فتعول فتنقص البنت عن النصف.

التالي السابق


الخدمات العلمية