الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولنأتين بما يذكر العلماء أنه استحسان على خلاف القياس:

فمن ذلك ما يقوله أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان، فإنه قد ذكر عنه روايتين كما تقدم، والقول الثالث وهو الذي يدل عليه أكثر نصوصه أن الاستحسان المخالف للقياس [ ص: 208 ] صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جمع بغير دليل شرعي وفرق بغير دليل شرفي، وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح.

أما قوله "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، لكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يجد الماء أو يحدث" فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم، وهو الصواب، كما دل عليه الكتاب والسنة.

وقوله "القياس" هو قياس الشرع لفظا ومعنى. فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين "، وقوله: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" ونحو ذلك، ألفاظ [ ص: 209 ] دالة على أن التراب طهور كالماء. والقرآن يدل على أنه طهور بقوله لما ذكر التيمم: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم . والذين أمروه بالتيمم لكل صلاة تمسكوا بآثار رويت عن بعض الصحابة، هي ضعيفة، وعنهم ما يخالفها. وقالوا: إنه لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح، فيبيح بقدر الضرورة. قالوا: ولو رفع الحدث لما كان إذا قدر على استعمال الماء يستعمله بحكم الحدث السابق من غير تجدد حدث. واحتجوا بقوله لعمرو بن العاص: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " [ ص: 210 ]

وجواب هذا أن قولهم "لا يرفع بل يبيح " كلام لا حقيقة له، ولو صح لم يكن لهم فيه حجة، فإن الحدث ليس هو أمرا محسوسا كطهارة الجنب، بل هو أمر معنوي يمنع الصلاة، فمتى كانت الصلاة جائزة، بل واجبة معه امتنع أن يكون هنا مانع من الصلاة، بل قد ارتفع المانع قطعا.

وإن قالوا: هو مانع، لكنه لا يمنع مع التيمم.

فالمانع الذي لا يمنع ليس بمانع.

فإن قيل: هو يمنع إذا قدر على استعمال الماء.

قيل: هو حينئذ! يوجد المانع.

فإن قالوا كيف يعود المانع من غير تجدد حدث؟

قيل: كما عاد الحاظر من غير تجدد حدب، فالحاظر للصلاة هو المانع، والمبيح لها هو الرافع لهذا المانع.

فإن قيل: أباحها إلى حين القدرة على استعمال الماء.

قيل: وأزال المانع إلى حين القدرة، فكما يقال: أباح إباحة موقتة، يقال: إنه رفع رفعا موقتا.

وإن قالوا: نحن لا نقبل إلا ما يرفع مطلقا كالماء. [ ص: 211 ]

قيل: ولا نقبل إلا ما يبيح مطلقا كالماء. وأيضا فالله ورسوله قد سماه طهورا، وجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طهور المسلم ما لم يجد الماء، وجعل تربة الأرض طهورا. والطهور ما يتطهر به، وقد قال تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا" . والتيمم قد يطهر، ومع الطهارة لا يبقى حدث، فإن الطهارة مناقضة للحدث، إذ غايته أن تكون نجاسة معنوية، والطهارة تناقض النجاسة.

فإن قيل: الصلاة بالتيمم رخصة كأكل الميتة في المخمصة، والرخصة استباحة المحظور مع قيام الحاظر ومنع المانع، فلو بقي مانعا لم تجز الصلاة. فعلم زوال المانع.

ولا يجوز أن يقال هنا: إنه استباح الصلاة مع قيام الحاظر لها، فإن كون الحاظر حاظرا زائل من الميتة لمعارض راجح، وذلك أن المعنى المقتضي للحظر القائم بالميتة موجود حال المخمصة، كما هو موجود في حال القدرة، فإن الميتة في نفسها لم تتغير، وإنما تغير حال الإنسان، كان غنيا عنها، ثم صار محتاجا إليها . فهذا [ ص: 212 ] يمكن دعواه في الميتة، ولا يمكن دعواه هنا، لأنه لا تحصل له إلا الميتة، وقد تغير حاله إليها، وحاجته تدفع الفساد الحاصل بأكلها فكذلك التيمم.

قيل: هذا قياس فاسد، وذلك أنه صاد ميتة وأكل، والميتة لم تتغير، لكن تغير حال الآكل، وهنا ليس إلا المحدث الذي كانت الصلاة محرمة عليه، ثم صارت واجبة عليه أو جائزة بالتيمم، فلو لم يتغير حاله بالتيمم لما جازت صلاته، وليس هنا إلا الحدث في الشرع، فأبيحت له الصلاة في حال، وحرمت عليه في حال، مع تسميته في حال الإباحة متطهرا، وجعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا.

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " استفهام، فسأله: أكان ذلك أم لم يكن؟ وليس هو خبرا أنه صلى وهو جنب، فلما أخبره أنه تيمم لخشية البرد تبين أنه لم يكن جنبا، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإلا فلو كان المراد الخبر وهو قد صلى مع الجنابة صلاة جائزة لم يسأله. وإن كانت الجنابة مانعة من الصلاة مطلقا لم يقبل عذره. وهو لم يقل: "أصليت وأنت جنب بلا تيمم " ليكون قد استفهمه عن حال التحريم، بل أطلق الصلاة مع الجنابة. وهم يقولون: يجوز مع الجنابة تارة، ولا يجوز أخرى، [ ص: 213 ] وكلام الرسول يقتضي منعها مع الجنابة مطلقا، وأن هذا استفهام إنكار، وأنه لما بين أنه تيمم تبين أنه لم يكن جنبا، فلا إنكار عليه بهذا أبدا، والله أعلم .

فقد تبين هنا أن القياس هو الصحيح، دون الاستحسان الذي يناقضه، وتخصيص العلة، وهو كون هذا بدلا طهورا مبيحا يقوم مقام الماء عند تعذره في جميع أحكامه، ثم يخص بعض الأحكام من حكم البدلية والطهورية والإباحة، والبدل يقوم مقام المبدل في حكمه لا في صورته، والحكم جواز الصلاة به ما لم يجد الماء أو يحدث. فذلك القول مخالف للقياس وتخصيص للعلة بلا ريب، والعفة صحيحة بلا ريب.

التالي السابق


الخدمات العلمية