الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما شرى المصاحف والسواد فإنما فرق فيهما بين الشرى والبيع، لأن العلة موجودة في البيع دون الشرى، فإن المشتري راغب في المصحف، معظم له، باذل فيه ماله، والبائع معتاض عنه بالمال، والشرع يفرق بين هذا وهذا، كما فرق في إعطاء المؤلفة [ ص: 222 ] قلوبهم بين المعطي والآخذ، وكذلك في افتداء الأسير وغير ذلك. ومعلوم أنه لو أعطاه المصحف والأرض الخراجية بلا عوض جاز، وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا يجوز تملكه كالخمر وغيرها، فإذا بذل له هذا فيه العوض لم تكن مضرته إلا على البائع.

فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب معلم إلا بثمن فينبغي أن يجوز بذله، وإن لم يجز أخذه.

قيل: إن لم يكن بينهما فرق مؤثر في الشرع فهكذا هو، وإن قيل هناك: يجب عليه إعطاء الكلب بلا عوض، بخلاف الأرض والمصحف، فهذا فرق. مع أن الثابت عن الصحابة كراهة بيع المصحف، وابن عباس كان يكرهه، وكان أيضا يجوزه ويقول: إنما هو مصور، وله أجرة تصويره . فدل على أنها كراهة تنزيه. وروي عن غيره: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف، وهذا تغليظ تحريم. ولهذا اختلفت الرواية عن أحمد: هل هو نهي تنزيه أو تحريم.

وأما شراه ومبادلته فهل هو مباح أو مكروه على روايتين، وعن ابن عباس يجوز أن يبيعه ويشتري بثمنه مصحفا آخر، وليس [ ص: 223 ] في المبادلة والشرى استبدال به عرضا من الدنيا، فالأظهر جواز ذلك بلا كراهة، وأن البيع أيضا لا يحرم، بل يكره تعظيما لكتاب الله، إذ ليس على التحريم دليل شرعي.

وكذلك الأرض الخراجية ليس في منع بيعها دليل شرعي أصلا، فإن الذين منعوها من الفقهاء قالوا: إنها وقف، وبيع الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في الوقف الذي يبطل حق أهل الوقف ببيعه، وهو الذي لا يورث ولا يوهب، والأرض الخراجية تورث وتوهب، والوقف الذي لا يباع لا يورث ولا يوهب، وذلك أن المشتري لها يقوم مقام البائع، لا يبطل حق أهل الوقف. [ ص: 224 ] وأحمد في ظاهر مذهبه يجوز بيع المكاتب لهذا المعنى، لأن ذلك لا يبطل حقه من الكتابة، بل يكون عند المشتري كما كان عند البائع، وهو يورث بالاتفاق. ولكن لما انعقد فيه سبب الحرية تخيل من منع بيعه أنه يباع حر، كما تخيل أولئك أنه يباع وقف، وليس الأمر كما تخيلوه، بل بيع الحر هو أن يستعبد فيصير بخلاف ما كان حرا، وبيع الوقف هو أن يجعل طلقا ويصرف فعله إلى غير مستحقيه.

والأرض الخراجية فعلها هو فعلها لم يتغير، وهو الخراج المضروب عليها، سواء كان ضريبة كخراج عمر، أو صار مقاسمة كما فعله متأخرو الخلفاء بأرض السواد وغيرها، كما فعله المنصور. فعلى التقديرين حق المسلمين باق، كما يبقى مع الموت والهبة.

والصحابة الذين كرهوا شراها إنما كرهوه لدخول المسلم في خراج أهل الذمة، أو إبطال حق المسلمين به، فإن المشتري إن أدى الخراج - وهو جزية- فقد التزم الصغار، وإن لم يؤده أبطل حق المسلمين، فلذا كره ذلك عمر وغيره من الصحابة، وهم نهوا عن الشرى.

وأما البيع فإنما كان يبيعها أهل الذمة، لأن الأرض الخراجية [ ص: 225 ] إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضا لئلا يشتغل المسلمون بالفلاحة والصغار عن الجهاد. فلما كثر المسلمون، وصار أكثرهم غير مجاهدين، وصار أداؤهم الخراج أنفع لعموم المسلمين من كونها بأيدي الذمة، لم يصر في ذلك من الصغار ما كان يكون في أول الإسلام إلا لمن يشتغل بعمارة الأرض عن الجهاد. وهذا لا يختص بالخراجية، بل قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سكة فقال: "ما دخلت هذه دار قويم إلا دخلها الذل ". رواه البخاري . مع أن الأنصار كانوا هم الفلاحين لأرضهم، فهذا على الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد، وهذا لا يختص بالخراجية.

التالي السابق


الخدمات العلمية