الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      غزوة الخندق

                                                                                      قال الواقدي : وهي غزوة الأحزاب ، وكانت في ذي القعدة .

                                                                                      قالوا : لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر ، وخرج نفر من وجوههم إلى مكة فألبوا قريشا ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم على قتاله ، وواعدوهم لذلك وقتا . ثم أتوا غطفان وسليما فدعوهم إلى ذلك ، فوافقوهم .

                                                                                      وتجهزت قريش وجمعوا عبيدهم وأتباعهم ، فكانوا في أربعة آلاف ، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس من سوى الإبل . وخرجوا وعليهم أبو [ ص: 487 ] سفيان بن حرب ، فوافتهم بنو سليم بمر الظهران ، وهم سبعمائة . وتلقتهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي ، وخرجت فزارة وهم في ألف بعير يقودهم عيينة بن حصن ، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن زحيلة . وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودها الحارث بن عوف . وقيل : إنه رجع ببني مرة ، والأول أثبت ، فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف ، وأمر الكل إلى أبي سفيان . وكان المسلمون في ثلاثة آلاف . هذا كلام الواقدي .

                                                                                      وأما ابن إسحاق فقال : كانت غزوة الخندق في شوال .

                                                                                      قال : وكان من حديثها أن سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع ، وهوذة ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدموا مكة فدعوا قريشا إلى القتال ، وقالوا : إنا نكون معكم حتى نستأصل محمدا . فقالت قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل كتاب وعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد . أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق وفيهم نزل : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ( 51 ) ) [ النساء ] الآيات . فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا إلى الحرب واتعدوا لهم . ثم خرج أولئك النفر اليهود حتى جاءوا غطفان ، فدعوهم فوافقوهم .

                                                                                      فخرجت قريش ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة في بني فزارة ، [ ص: 488 ] والحارث بن عوف المري في قومه ، ومسعود بن زحلية فيمن تابعه من قومه أشجع . فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده ، وأبطأ عن المسلمين في عمله رجال منافقون ، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه . وكان في حفره أحاديث بلغتني ، منها : بلغني أن جابرا كان يحدث أنهم اشتدت عليهم كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله ، ثم نضح الماء على الكدية حتى عادت كثيبا .

                                                                                      وحدثني سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله ، قال : عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق ، فكانت عندي شويهة ، فقلت : والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير ، فصنعت لنا منه خبزا ، وذبحت تلك الشاة فشويناها ، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف ، وكنا نعمل في الخندق نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا ، فقلت : يا رسول الله إني قد صنعت كذا وكذا ، وأحب أن تنصرف معي ، وإنما أريد أن ينصرف معي وحده . فلما قلت له ذلك ، قال : نعم . ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر . فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فأقبل وأقبل الناس معه ، فجلس وأخرجناها إليه ، فبرك وسمى ، ثم أكل ، وتواردها الناس ، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس ، حتى صدر أهل الخندق عنها .

                                                                                      وحدثني سعيد بن ميناء أنه حدث أن ابنة لبشير بن سعد قالت : دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي ، ثم قالت :

                                                                                      [ ص: 489 ] أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بغدائهما . فانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي ، فقال : ما هذا معك ؟ قلت : تمر بعثت به أمي إلى أبي وخالي ، قال : هاتيه . فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فملأتهما ، ثم أمر بثوب فبسط ، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ، ثم قال لإنسان عنده : اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء . فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد ، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب
                                                                                      .

                                                                                      وحدثني من لا أتهم ، عن أبي هريرة ، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان وما بعده : افتحوا ما بدا لكم ، والذي نفسي بيده ، أو نفس أبي هريرة بيده ، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك .

                                                                                      قال : وحدثت عن سلمان الفارسي ، قال : ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني ، فلما رآني أضرب نزل وأخذ المعول فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة ، ثم ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى ، ثم ضرب الثالثة فلمعت أخرى . قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا ؟ قال : أوقد رأيت ؟ قلت : نعم . قال : أما الأولى ، فإن الله فتح علي بها اليمن ، وأما الثانية ، فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب ، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق .

                                                                                      [ ص: 490 ] قال ابن إسحاق : ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من دومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة وغطفان ، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب تعمر إلى جانب أحد . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف ، فعسكروا هناك ، والخندق بينه وبين القوم . فذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وقد كان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه ، فلما سمع كعب بحيى أغلق دونه الحصن فأبى أن يفتح له ، فناداه : يا كعب افتح لي . قال : إنك امرؤ مشؤوم ، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا . قال : ويحك افتح لي أكلمك . قال : ما أنا بفاعل . قال : والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها . فأحفظه ، ففتح له فقال : ويحك يا كعب ، جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب تعمر إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه . قال له كعب : جئتني والله بذل الدهر [ ص: 491 ] وبجهام قد هراق ماءه برعد وبرق ليس فيه شيء ، يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء . فلم يزل حيي بكعب حتى سمح له بأن أعطاه عهدا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك . فنقض كعب عهده وبرئ مما كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                      ولما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، سيدا الأنصار ، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء ؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس . فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم ، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكان فيه حدة ، فقال له ابن عبادة : دع عنك مشاتمتهم ، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة . ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ، وقالوا : عضل والقارة ، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين . فعظم عند ذلك الخوف .

                                                                                      قال الله تعالى : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ( 10 ) ) ، ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ( 11 ) ) [ الأحزاب ] الآيات .

                                                                                      وتكلم المنافقون حتى قال معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على [ ص: 492 ] نفسه أن يذهب إلى الغائط . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار .

                                                                                      ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما ، فجرى بينه وبينهما صلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة في ذلك .

                                                                                      فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، بعث إلى السعدين فاستشارهما ، فقالا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا تحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا منه ، أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم . فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . قال : فأنت وذاك . فأخذ سعد الصحيفة فمحاها ، ثم قال : ليجهدوا علينا .

                                                                                      وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحزاب ، فلم يكن بينهم قتال إلا فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبد ود ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطاب ، تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم ، حتى مروا بمنازل بني كنانة ، فقالوا : تهيؤوا للقتال يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم ، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق ، فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ، قال : فتيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم ، فاقتحمت منه بهم في [ ص: 493 ] السبخة بين الخندق وسلع .

                                                                                      وخرج علي رضي الله عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة ، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد ، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله ، قال : من يبارزني ؟ فبرز له علي رضي الله عنه ، فقال : يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتهما منه . قال له : أجل . قال : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال : فإني أدعوك إلى النزال . قال له : لم يا ابن أخي ، فوالله ما أحب أن أقتلك . قال علي كرم الله وجهه : لكني والله أحب أن أقتلك . فحمي عمرو واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا ، فقتله علي رضي الله عنه . وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق . وألقى عكرمة يومئذ رمحه وانهزم . وقال علي رضي الله عنه في ذلك :


                                                                                      نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت دين محمد بضراب     نازلته فتركته متجدلا
                                                                                      كالجذع بين دكادك وروابي     لا تحسبن الله خاذل دينه
                                                                                      ونبيه يا معشر الأحزاب

                                                                                      وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل ، أن عائشة رضي الله عنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق ، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن ، فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها ، وفي يده حربة يرفل بها ويقول :


                                                                                      لبث قليلا يشهد الهيجا حمل     لا بأس بالموت إذا حان الأجل

                                                                                      [ ص: 494 ] فقالت له أمه : الحق أي بني فقد أخرت . قالت عائشة : فقلت لها يا أم سعد لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي . فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل ، ورماه ابن العرقة فلما أصابه ، قال : خذها مني وأنا ابن العرقة . فقال له سعد : عرق الله وجهك في النار ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، اللهم إن كنت وضعت الحرب بينهم وبيننا فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة .

                                                                                      وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارع -حصن حسان بن ثابت وكان معها فيه مع النساء والولدان ، قالت : فمر بنا يهودي فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا . فقالت : يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فانزل إليه فاقتله . قال : فغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا . فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا ، احتجزت ثم أخذت عمودا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته . فلما فرغت رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسان انزل إليه فاسلبه ، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . قال : ما لي بسلبه من حاجة .

                                                                                      [ ص: 495 ] وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم .

                                                                                      وروى نحوه يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه .

                                                                                      ثم إن نعيم بن مسعود الغطفاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ، وقال : إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله . قال : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة .

                                                                                      فأتى قريظة - وكان نديما لهم في الجاهلية - فقال لهم : قد عرفتم ودي إياكم . قالوا : صدقت . قال : إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم ، لا تقدروا أن تتحولوا عنه إلى غيره ، وإن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه . فقالوا : لقد أشرت بالرأي .

                                                                                      ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه : قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا ، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموه علي . قالوا : نفعل . قال : تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين ، قريش وغطفان ، رجالا من أشرافهم ، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون [ ص: 496 ] معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم . فأرسل إليهم . نعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا منكم من رجالكم فلا تفعلوا .

                                                                                      ثم خرج فأتى غطفان ، فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني . قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم . قال : فاكتموا عني . قالوا : نفعل . ثم قال لهم مثل ما قال لقريش ، وحذرهم ما حذرهم .

                                                                                      فلما كانت ليلة السبت من شوال ، وكان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان ، إلى بني قريظة ، عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا . فأرسلوا إليهم الجواب أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ، ولا طاقة لنا بذلك .

                                                                                      فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : والله لقد حدثكم نعيم بن مسعود بحق . فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا .

                                                                                      فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم . فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا . فأبوا عليهم . وخذل الله بينهم .

                                                                                      [ ص: 497 ] فلما أنهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم .

                                                                                      قال : فحدثني يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة : يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال : نعم يا ابن أخي . قال : فكيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنا نجهد . فقال : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا . فقال : يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وصلى هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة . فما قام أحد من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد . فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي من القيام بد حين دعاني ، فقال : يا حذيفة اذهب فادخل في القوم ، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا . فذهبت فدخلت في القوم ، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، لا يقر لهم قرار ولا نار ولا بناء . فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه . قال حذيفة رضي الله عنه : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت ، فقال : فلان بن فلان ، ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإني مرتحل . ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم . ولولا [ ص: 498 ] عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني ، ثم شئت لقتلته بسهم .

                                                                                      قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مراحل - وهو ضرب من وشي اليمن فسره ابن هشام - فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط ، ثم ركع وسجد وإني لفيه ، فلما سلم أخبرته الخبر .

                                                                                      وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم .

                                                                                      قال الله تعالى : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ( 25 ) ) [ الأحزاب ] .

                                                                                      وهذا كله من رواية البكائي عن محمد بن إسحاق .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية