الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنشأ النزاع أن الأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز إيقاعها على غير وجه التقرب؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يجوز الإجارة، لأنها بالعوض تقع غير قربة، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه. ومن جوز الإجارة جوز إيقاعها على غير وجه التقرب، ولا تصح الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر، فأما الاستئجار للتلاوة فليس من هذا الباب.

والعلماء متفقون على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العتق ونحوه من العبادات المالية. وأما العبادات البدنية كالقراءة والصيام والصلاة فلهم فيها قولان مشهوران، ومن جوز إلا هذا فلا بد أن يكون ثواب عمل صالح، وهو ما أريد به وجه الله، فإذا وقعت العبادة لمجرد العوض -مثل أن يعطيه عوضا على صلاته أو صيامه أو قراءته- لم تقع قربة، فلا ثواب ولا إهداء، ولكن نفس حفظ القرآن ودراسته وتعلمه وتعليمه من الأعمال المقصودة، وإنفاق المال فيها من القربات والطاعات، كإعانة المسلمين على الجهاد والصيام وغيرهما.

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من فطر صائما فله مثل أجره" ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من [ ص: 134 ] جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" . فإعانة المسلمين على تلاوة القرآن وتبليغه بالمال ونحوه حسن مشروع.

ولهذا لما تغير الناس وصاروا يفعلون بدعة ويتركون شرعة، وفي البدعة مصلحة ما إن تركوها ذهبت المصلحة ولم يأتوا بالمشروع، صار الواجب أمرهم بالمشروع المصلح لتلك المصلحة مع النهي عن البدعة، وإن لم يمكن ذلك فعل ما يمكن وقدم الراجح. فإذا كانت مصلحة الفعل أهم لم ينه عنه لما فيه من المفسدة إلا مع تحصيل المصلحة، وإن كانت مفسدته أهم نهي عنه.

وهذه الوقوف التي على الترب فيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونة على ذلك وخاصة عليه، إذ قد يدرس حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر: من حصول القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك فالواجب النهي عن ذلك والمنع منه وإبطاله، وإن ظن حصول مفسدة أكثر من ذلك لم يدفع أدنى الفسادين باحتمال أعلاهما. لهذا جاء الوعيد في حق الشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المستكبر، كما في الصحيح : "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر". وذلك لضعف الموجب لهذه المعاصي في حقهم. [ ص: 135 ]

فينبغي للمؤمن الذي يقصد وجه الله إذا أراد الله يثيبه ويرحم ميته أن يتصدق عنه، ويقصد بذلك من ينتفع بالمال على مصلحة عامة من أهل القرآن ونحوهم، ولا يشترط عليهم إهداء القرآن إلى الميت ولا قراءته عند القبر ونحو ذلك مما يخرج العمل عن أن يكون خالصا لله أو أن يكون غير مشروع، فإن في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. وفي البخاري عن ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها.

التالي السابق


الخدمات العلمية