الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيئا وجعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه، فإنهم قالوا: إن رأى المصلحة في جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم – خيبر؛ وإن رأى أن لا يقسمها جاز، كما لم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة مع أنه فتحها عنوة، كما شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء. ولأن خلفاءه بعده أبا بكر وعمر وعثمان [ ص: 408 ] فتحوا ما فتحوه من أرض المغرب والروم وفارس، كالعراق والشام ومصر وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئا للمسلمين داخلا في قوله: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول الآية . ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلب أكابر الغانمين قسمة العقار، فلم يجيبوهم إلى ذلك، كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر، فلم يجيبوهم إلى ذلك. ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك، فضلا عن أن يستطيب أنفس جميع الغانمين.

وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيئا بنفس الفتح، ومن نصر مذهبه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلة في الغنيمة؛ فإن الله حرم على بني إسرائيل المغانم وملكهم العقار، فعلم أنه ليس من المغانم. وهذا القول يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي: أنه يجب قسمة العقار والمنقول، لأن الجميع مغنوم.

وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة بل صلحا، فلا يكون فيها حجة. ومن حكى عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة -كصاحب "الوسيط" وفروعه- فقد غلط عليه. وقال في السواد: لا أدري ما أقول فيه، إلا أني أظن فيه ظنا مقرونا بعلم وظن أن عمر استطاب أنفس الغانمين، لما روي من قصة المثنى بن حارثة. وبسط هذا له موضع آخر. [ ص: 409 ]

وقول الجمهور أعدل الأقاويل، وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة، لا تخيير شهوة ومشيئة، وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية، كناظر الوقف ووصي اليتيم والوكيل المطلق، لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب، ويجزى للأصلح.

كالرجل المبتلى بعدوين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما، فيبتدئ بما له نفع. وكالإمام في تولية من ولاه الحرب والحكم والمال يختار الأصلح فالأصلح. فمن ولى رجلا على عصابة، وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين.

وهذا بخلاف من خير بين شيئين وله أن يفعل أيهما شاء، كالمكفر إذا خير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل.

التالي السابق


الخدمات العلمية