الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الثالث

تغليب العاقل على غيره

بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل ، فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع ، كما تقول : " خلق الله الناس والأنعام ورزقهم " فإن لفظ " هم " مختص بالعقلاء ، ومنه قوله تعالى : والله خلق كل دابة من ماء ( النور : 45 ) لما تقدم لفظ الدابة ، والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلب من يعقل ، فقال : فمنهم من يمشي ( النور : 45 ) .

فإن قيل : هذا صحيح في " فمنهم " لأنه لمن يعقل ، وهو راجع إلى الجميع ، فلم قال : " من " وهو لا يقع على العام ؛ بل خاص بالعاقل ؟

قلت : " من " هنا بعض " هم " ، وهو ضمير من يعقل .

فإن قلت : فكيف يقع على بعضه لفظ ما لا يعقل ؟

قلت : " من " هنا قال أبو عثمان : إنه تغليب من غير عموم لفظ متقدم ، فهو بمنزلة من يقول : رأيت ثلاثة : زيدا وعمرا وحمارا .

[ ص: 373 ] وقال ابن الضائع : " هم " لا تقع إلا على من يعقل ، فلما أعاد الضمير على " كل دابة " غلب من يعقل فقال : " هم " و " من " بعض هذا الضمير ؛ وهو للعاقل ، فلزم أن يقول " من " فلما قال : " من " لوقوع التغليب في الضمير ، صار ما يقع عليه حكمه حكم العاقلين ؛ فتمم ذلك بأن أوقع " من " .

وقوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض : قالتا أتينا طائعين ( فصلت : 11 ) إنما جمعهما جمع السلامة ولم يقل " طائعين " ولا " طائعات " ؛ لأنه أراد : ائتيا بمن فيكم من الخلائق طائعين ، فخرجت الحال على لفظ الجمع ، وغلب من يعقل من الذكور .

وقال بعض النحويين : لما أخبر عنهما أنهما يقولان كما يقول الآدميون أشبهتا الذكور من بني آدم ، وإنما قال : " طائعين " ولم يقل : " مطيعين " ؛ لأنه من ( طعنا ) أي انقدنا ، وليس من ( أطعنا ) يقال : طاعت الناقة تطوع طوعا : إذا انقادت .

وقوله تعالى : بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ( البقرة : 116 ) قيل : أوقع " ما " لأنها تقع على أنواع من يعقل ؛ لأنه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل فغلب ما لا يعقل كان الأمر بالعكس ، ويناقضه : كل له قانتون ( البقرة : 116 ) .

وقال الزمخشري : جاء بـ " ما " تحقيرا لشأنهم وتصغيرا ، قال : " له قانتون " تعظيم .

ورد عليه ابن الضائع بصحة وقوعها على الله عز وجل ، قال : وهذا غاية الخطأ ، وقوله في دعاء الأصنام : هل يسمعونكم إذ تدعون ( الشعراء : 72 ) .

وقوله : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ( فصلت : 21 ) .

وأما قوله : فظلت أعناقهم لها خاضعين ( الشعراء : 4 ) وقوله تعالى : في فلك يسبحون ( يس : 40 ) لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( الأنبياء : 65 ) .

[ ص: 374 ] إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( يوسف : 4 ) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ( الأنبياء : 99 ) ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ( النمل : 18 ) لأنه سبحانه لما أخبر عنها بأخبار الآدميين جرى ضميرها على حد من يعقل ، وكذا البواقي .

فإن قيل : فقد غلب غير العاقل على العاقل في قوله : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة ( النحل : 49 ) فإنه لو غلب العاقل على غير العاقل لأتى بـ " من " .

فالجواب أن هذا الموضع غلب فيه من يعقل ، وعبر عن ذلك بـ " ما " ؛ لأنها واقعة على أجناس من يعقل ومن لا يعقل ، وقد يقع على أجناس من يعقل خاصة ، كهذه الآية .

وقوله : لله ملك السماوات والأرض وما فيهن ( المائدة : 120 ) ولم يقل : " ومن فيهن " قيل : لأن كلمة " ما " تتناول الأجناس كلها تناولا عاما بأصل الوضع ، و " من " لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع ، فكان استعمال ( ما ) هنا أولى .

وقد يجتمع في لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب ، والعقلاء على غيرهم ، كقوله : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ( الشورى : 11 ) أي : خلق لكم أيها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا ، وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا ، " يذرؤكم " أي : ينبتكم ويكثركم أيها الناس والأنعام ، في هذا التدبير والجعل ، فهو خطاب للجميع ؛ للناس المخاطبين وللأنعام المذكورة بلفظ الغيبة ، ففيه تغليب المخاطب على الغائب ، وإلا لما صح ذكر الجميع - أعنى الناس والأنعام - بطريق الخطاب ؛ لأن الأنعام غيب ، وتغليب العقلاء على غيرهم ، وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ " كم " المختص بالعقلاء . ففي لفظ " كم " تغليبان ، ولولا التغليب لكان القياس أن يقال : " يذرؤكم وإياها " هكذا قرره السكاكي والزمخشري .

[ ص: 375 ] ونوزعا فيه ؛ بأن جعل الخطاب شاملا للأنعام تكلف لا حاجة إليه ؛ لأن الغرض إظهار القدرة وبيان الألطاف في حق الناس ، فالخطاب مختص بهم ، والمعنى : يكثركم أيها الناس في التدبير حيث مكنكم من التوالد والتناسل ، وهيأ لكم من مصالحكم ما تحتاجون إليه في ترتيب المعاش ، وتدبير التوالد ، " والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون " وجعلها أزواجا تبقى ببقائكم ، وعلى هذا يكون التقدير : وجعل لكم من الأنعام أزواجا ، وهذا أنسب بنظم الكلام مما قرروه ، وهو جعل الأنعام أنفسها أزواجا .

وقوله : يذرؤكم فيه ( الشورى : 11 ) أي : في هذا التدبير ؛ كأنه محل لذلك ، ولم يقل " به " كما قال : ولكم في القصاص حياة ( البقرة : 179 ) لأنه مسوق لإظهار الاقتدار مع الوحدانية ، فأسقط باء السببية ، وأثبت " في " الظرفية ، وهذا وجه من إعجاز قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة ( البقرة : 179 ) لأن الحياة من شأنها الاستناد إليه سبحانه لا إلى غيره ، فاختيرت ( في ) على الباء ؛ لأنه مسوق لبيان الترغيب ، والمعنى مفهوم ، والقصاص مسوق للتجويز وحسن المشروعية وأن تعفوا أقرب للتقوى ( البقرة : 237 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية