الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء رحمهم الله وهي أن صفة الفقر أعلى أم صفة الغنى

والمذهب عندنا أن صفة الفقر أعلى وقال بعض الفقهاء : صفة الغنى أعلى ، وقد أشار محمد رحمه الله في كتاب [ ص: 253 ] الكسب في موضعين إلى ما بينا من مذهبنا فقال في أحد الموضعين ولو أن الناس قنعوا بما يكفيهم وعمدوا إلى الفضول فوجهوها لأمر آخرتهم لكان خيرا لهم وقال في الموضع الآخر وما زاد على ما لا بد منه يحاسب عليه المرء ، ولا يحاسب أحد على الفقر ، ولا شك أن ما لا يحاسب المرء عليه يكون أفضل مما يحاسب المرء عليه ، وأما من فضل الغنى فاحتج وقال : الغنى نعمة والفقر بؤس ونقمة ومحنة ، ولا يخفى على عاقل أن النعمة أفضل من النقمة والمحنة والدليل عليه أن الله تعالى سمى المال فضلا فقال عز وجل { وابتغوا من فضل الله } وقال تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وما هو فضل الله ، فهو أعلى الدرجات وسمي المال خيرا فقال عز وجل { إن ترك خيرا الوصية للوالدين } ، وهذا اللفظ يدل على أنه خير من عنده .

وقال تعالى { ولقد آتينا داود منا فضلا } يعني الملك والمال حتى روي أنه كانت له مائة سرية فتمنى من الله تعالى الزيادة على ذلك فقال { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } ، ولا يظن بأحد من الرسل عليهم السلام أنه سأل من الله تعالى الدرجة الدنيا دون الدرجة العليا والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { الأيدي ثلاثة يد الله ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة وهي السفلى إلى يوم القيامة } ، وفي حديث آخر قال عليه السلام { اليد العليا خير من اليد السفلى } واليد العليا هي اليد المعطية وقال عليه السلام لسعد بن أبي وقاص { رضي الله عنه إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس } وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها في مرضه إن أحب الناس إلي غنى أنت وأعزهم علي فقرا أنت فهذا يدل على أن صفة الغنى أعلى من صفة الفقر قال عليه السلام { كاد الفقر أن يكون كفرا } وقال عليه السلام { اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك } وقال عليه السلام { اللهم إني أعوذ بك من البؤس والتباؤس } البؤس : الفقر والتباؤس : التمسكن ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتعوذ بالله من أعلى الدرجات

وحجتنا في ذلك أن الفقر أسلم للعباد وأعلى الدرجات للعبد ما يكون أسلم له وبيان ذلك أنه يسلم بالفقر من طغيان الغنى قال الله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى } الآية ، وقال عز وجل { الذين طغوا في البلاد } الآية ، وإنما حملهم على ذلك الطغيان الأغنياء يعني الذين ادعوا ما لا ينبغي لأحد من البشر ، فإنه لم ينقل أن أحدا من الفقراء وقع في ذلك فدل أن الفقر أسلم ثم صفة الغنى مما تميل إليه النفس ويدعو إليه الطبع ويتوصل به إلى اقتضاء الشهوات ، ولا يتوصل بالفقر إلى شيء من ذلك وأعلى الدرجات ما يكون أبعد من اقتضاء الشهوات [ ص: 254 ] وقال تعالى { واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال جل وعلا { زين للناس } الآية والدليل عليه قوله عليه السلام { حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات } وقال عليه السلام { الفقر أزين بالمؤمن من العداء الجيد على جيد الفرس } وقال عليه السلام { إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم ، وهو خمسمائة عام } ، وفي الآثار { إن آخر الأنبياء عليهم السلام دخولا الجنة سليمان عليه السلام لملكه } { وقال عليه السلام يوما لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ما أبطأك عني يا عبد الرحمن قال : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : إنك آخر أصحابي لحوقا بي يوم القيامة فأقول ما حبسك عني فتقول : المال ، كنت محاسبا محبوسا حتى الآن } وكان هو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وقد قاسم الله ماله أربع مرات فتصدق بالنصف وأمسك النصف في المرة الأولى وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق بأربعة آلاف ، وفي المرة الثانية كان ثمانية آلاف دينار فتصدق بنصفها ، وفي المرة الثالثة كان ستة عشر ألف دينار فتصدق بنصفها ، وفي المرة الرابعة كان اثنين وثلاثين ألف دينار فتصدق بنصفها ومع ذلك كله قال عليه السلام في حقه ما قال فتبين به أن صفة الفقر أفضل .

وقال عليه السلام { عرض علي مفاتيح خزائن الأرض فاستفتيت أخي جبريل عليه السلام بذلك فأشار إلي بالتواضع فقلت : أكون عبدا أجوع يوما وأشبع يوما ، فإذا جعت صبرت ، وإذا شبعت شكرت } وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول { اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين } ، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل لنفسه أعلى الدرجات وأن الأفضل لنا ما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم } ففي هذا إشارة إلى أن الواجب علينا التمسك بهذا .

ويتبين بما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تعوذ من الفقر المطلق ، وإنما تعوذ من الفقر المنسي على ما روي في بعض الروايات أنه عليه السلام قال { اللهم إني أعوذ بك من فقر منس ، ومن غنى يطغي } إلا أنه قيد السؤال في بعض الأحوال ومراده ذلك أيضا ولكن من سمع اللفظ مطلقا نقله ، كما سمع وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى

التالي السابق


الخدمات العلمية