الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      {الواقعة} : القيامة، وجواب {إذا} قوله: فأصحاب الميمنة .

                                                                                                                                                                                                                                      ليس لوقعتها كاذبة : قال الحسن وغيره: ليس لوقعتها مثنوية، ولا رجعة.

                                                                                                                                                                                                                                      الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 310 ] وقيل: ليس في الإخبار بوقوعها كذب.

                                                                                                                                                                                                                                      و {كاذبة} : يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون نعتا، بمعنى: حال كاذبة، أو فرقة كاذبة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: خافضة رافعة : قال عكرمة وغيره: خفضت؛ فأسمعت الأدنى، ورفعت، فأسمعت الأقصى، فكان القريب والبعيد سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت أقواما إلى طاعة الله.

                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إذا رجت الأرض رجا أي: زلزلت، عن مجاهد وغيره، وفي قوله: {رجا} دليل على تكرار الزلزلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وبست الجبال بسا أي: فتت فتا، عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد: كما يبس السويق.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة: كما يبس الشجر تذروه الرياح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: معناه: سيرت، ومن الحديث: "جاءكم أهل اليمين يبسون عيالاتهم".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 311 ] وقوله: فكانت هباء منبثا : قال علي رضي الله عنه: الهباء المنبث: الرهج الذي يسطع من حوافر الدواب، فينبث، فلا يكون شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد: هو الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار، وروي نحوه عن ابن عباس، وعنه أيضا: هو ما يطير من النار إذا اضطرمت، يطير منها شرر، فإذا وقع لم يكن شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      فأصحاب الميمنة : هم الذين أخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، و أصحاب المشأمة : هم الذين أخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والعرب تقول لليد الشمال: (الشؤمى) ، وللجانب الشمال: (الأشأم) ، وكذلك يقال لما جاء عن اليمين: (اليمن) ، ولما جاء عن الشمال: (الشؤم) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنما قال: أصحاب الميمنة ؛ لأنهم أعطوا كتبهم بأيمانهم، و أصحاب المشأمة ؛ لأنهم أعطوا كتبهم بشمائلهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لأن أصحاب الميمنة ميامين على أنفسهم، و أصحاب المشأمة مشائيم على أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 312 ] المبرد: أصحاب الميمنة : أصحاب التقدم، و أصحاب المشأمة : أصحاب التأخر، والعرب تقول: اجعلني في يمينك، ولا تجعلني في شمالك؛ أي: اجعلني من المتقدمين، ولا تجعلني من المتأخرين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن ذلك مردود إلى ما جاء في الخبر: " إن الله تعالى خلق الطيب من ذرية آدم في الجانب اليمين من آدم، والخبيث في الجانب الشمال منه".

                                                                                                                                                                                                                                      والتكرير في ما أصحاب الميمنة و ما أصحاب المشأمة تعظيم لشأنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: والسابقون السابقون : روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " {السابقون} : الذين إذا أعطوا الحق، قبلوه، وإذا سئلوه؛ بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم".

                                                                                                                                                                                                                                      ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين، وقيل: هم المهاجرون الأولون؛ فالمعنى: والسابقون إلى الإيمان بالله [هم] السابقون إلى جنته، [ويجوز أن يكون التقدير: السابقون إلى رحمة الله هم السابقون]، ويجوز أن يكون التكرير تأكيدا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 313 ] مجاهد: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثلة من الأولين وقليل من الآخرين : (الثلة) : الجماعة، مأخوذة من (الثل) ؛ وهو القطع.

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد: الجميع من هذه الأمة؛ فالمعنى: فرقة ممن تقدم، وفرقة ممن تأخر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن وغيره: المعنى: فرقة ممن مضى قبل هذه الأمة، وقليل من الآخرين ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وسموا (قليلا) ؛ بالإضافة إلى من كان قبلهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد بذلك: الأنبياء؛ لأنهم في الأولين أكثر منهم في الآخرين.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قوله: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ؛ فقد روى ابن عباس: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "الثلتان جميعا من أمتي".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: على سرر موضونة أي: مصفوفة، عن ابن عباس، وعنه أيضا وعن مجاهد وغيرهما: مرمولة بالذهب.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة: المرمولة المشبكة بالذهب.

                                                                                                                                                                                                                                      عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 314 ] وأصل (الموضونة) : المنسوجة المداخلة المضاعفة؛ كصفة الدرع، و(السرير الموضون) : الذي سطحه بمنزلة المنسوج، وهو ألين من الخشب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: يطوف عليهم ولدان مخلدون : قال الحسن: أي: باقون على سن واحدة، لا يهرمون.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد: معنى قوله: {مخلدون} : لا يموتون.

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء: مقرطون، وقيل: مسورون.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى: لا يصدعون عنها : لا يصيبهم وجع في رءوسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وتقدم القول في {ينـزفون} .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين : التكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: في سدر مخضود أي: في نبق قد خضد شوكه؛ أي: قطع، قاله ابن عباس وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وطلح منضود : قال علي رضي الله عنه وغيره: (الطلح) : الموز.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 315 ] أبو عبيدة: (الطلح) : كل شجر عظيم كثير الشوك.

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى {ومنضود} : بعضه على بعض.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وظل ممدود أي: دائم، لا تنسخه الشمس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وماء مسكوب أي: جار لا ينقطع.

                                                                                                                                                                                                                                      وفاكهة كثيرة : أعيد ذكرها؛ للبيان عن الصفات التي هي عليها في أنها لا [تنقطع، ولا تمنع، ولا] تجيء في حين دون حين، ولا يحظر عليها كثمار الدنيا، وليست بممنوعة ببعد متناول، ولا شوك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وفرش مرفوعة : روي في الخبر: "أن ارتفاعها كما بين السماء والأرض".

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن (الفرش) كناية عن النساء اللواتي في الجنة؛ فالمعنى: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن، وكمالهن، وعقولهن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إنا أنشأناهن إنشاء : قيل: يعني: نساء بني آدم؛ والمعنى: أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن؛ لأنهن قد دخلن في أصحاب [ ص: 316 ] اليمين، أو لأن الفرش كناية عن النساء، وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: إنا أنشأناهن إنشاء قال: "فيهن البكر والثيب"، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "هن العجائز العمش الرمص في الدنيا".

                                                                                                                                                                                                                                      أبو عبيدة: الضمير في {أنشأناهن} يعود على وحور عين ؛ فالمعنى: إنا خلقناهن من غير ولادة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فجعلناهن أبكارا عربا} : روي: "أن الرجل من أهل الجنة يجد المرأة بكرا كلما جامعها".

                                                                                                                                                                                                                                      و(العرب) : جمع(عروب) ، قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: (العرب) : العواشق لأزواجهن، وعن ابن عباس أيضا: (العروب) : الملقة، عكرمة: الغنجة، زيد بن أسلم: الحسنة الكلام، عكرمة وقتادة: (العرب) : المتحببات إلى أزواجهن، وعن الحسن: هن العواتق، واشتقاقه من (أعرب) ؛ إذا بين؛ فـ (العروب) : تبين محبتها لزوجها بشكل، وغنج، وحسن كلام.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 317 ] وقوله: أترابا} أي: على سن واحدة، عن ابن عباس وغيره، وقد تقدم ذكره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لأصحاب اليمين أي: أنشأناهن لأصحاب اليمين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم : (السموم) : الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، و(الحميم) : الماء الحار.

                                                                                                                                                                                                                                      و(اليحموم) : دخان شديد السواد، عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هي نار سوداء، وكذلك (اليحموم) في اللغة: الشديد السواد.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو (يفعول) من (الحم) ؛ وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل: هو مأخوذ من (الحمم) ؛ وهو الفحم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لا بارد ولا كريم أي: ليس بكريم المنظر، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إنهم كانوا قبل ذلك مترفين أي: منعمين بالحرام.

                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا يصرون على الحنث العظيم أي: يقيمون على الشرك، وعن الحسن وغيره، وعن مجاهد: الذنب العظيم، وقيل: إن إصرارهم على الحنث العظيم [ ص: 318 ] قسمهم: لا يبعث الله من يموت [النحل: 38]، كما أخبر الله عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فشاربون شرب الهيم يعني: الإبل التي لا تروى؛ لداء يصيبها، واحدها (أهيم) ، والأنثى: (هيماء) ، وبعضهم يقول: (هائم، وهائمة) ، ويجمعه على (هيم) ، وهذا مروي عن ابن عباس، وعكرمة، وغيرهما: أن (الهيم) : العطاش التي لا تروى، وقد روي عن ابن عباس أيضا: أن (الهيم) : الهيام من الأرض؛ وهو الرمل، ويقال لكل ما لا يروى من إبل أو رمل: (أهيم، وهيماء) .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا نـزلهم يوم الدين أي: رزقهم وطعامهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية