الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  229 - وقال الليث : حدثني جعفر ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نادت امرأة ابنها وهو في صومعة. قالت: يا جريج، قال: اللهم أمي، وصلاتي. [ ص: 281 ] قالت: يا جريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: يا جريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، فولدت فقيل لها: ممن هذا الولد ؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته. قال جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي ؟ قال: يا بابوس، من أبوك ؟ قال: راعي الغنم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم أربعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: الليث بن سعد .

                                                                                                                                                                                  الثاني: جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة القرشي .

                                                                                                                                                                                  الثالث: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج .

                                                                                                                                                                                  الرابع: أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الإفراد في موضع واحد، وفيه العنعنة في موضع واحد، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه أن الليث وشيخه مصريان، وعبد الرحمن مدني ، وهذا تعليق من البخاري ; لأنه لم يدرك الليث ، ووصله الإسماعيلي ، أخبرنا أبو بكر المروزي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ... الحديث مطولا، وفيه: لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة ، فعرف أن ذلك يصيبه، فلما مروا به على بيت الزواني خرجن يضحكن فتبسم، فقالوا: لم يضحك حتى مر بالزواني.

                                                                                                                                                                                  ووصله أبو نعيم أيضا، حدثنا أبو بكر بن خلاد ، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان ، حدثنا يحيى بن بكير ، قال: حدثنا الليث ، عن جعفر ، وأسنده البخاري أيضا في باب واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي فجاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته فتعرضت له امرأة، وكلمته فأبى، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما، فقيل لها: ممن ؟ فقالت: من جريج ، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك ؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب ؟ قال: لا إلا من طين . الحديث.

                                                                                                                                                                                  (ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في باب بر الوالدين، ودعاء الوالدة على الولد ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد بن هلال ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: كان جريج يتعبد في صومعته، فجاءت أمه فقالت: يا جريج ، أنا أمك كلمني، فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت ثم عادت في الثانية، فقالت: يا جريج ، أنا أمك فكلمني، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره. قال: فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي فحملت فولدت غلاما فقيل لها: ما هذا ؟ قالت: من صاحب هذا الدير. قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم، فنادوه فصادفوه وهو يصلي، فلم يكلمهم. قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه، فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن، فلما سمعوا ذلك منه قالوا له: نبني ما هدمناه من ديرك بالذهب والفضة؟ قال: لا، ولكن أعيدوه ترابا كما كان .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أيضا من طريق جرير بن حازم ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يتكلم في المهد، الحديث. وفيه: وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي. قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب ؟ قال: لا أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا . الحديث.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم كما ذكرنا، وذكر الفقيه أبو الليث السمرقندي في كتابه تنبيه الغافلين: كان جريج راهبا في بني إسرائيل يعبد الله في صومعته، فجاءته أمه يوما، وهو قائم في الصلاة فنادته: يا جريج ، فلم يجبها لاشتغاله بصلاته، فقالت: ابتلاك الله بالمومسات، يعني: الزواني، وكانت امرأة في تلك البلدة خرجت لحاجتها [ ص: 282 ] فأخذها راعي الغنم فواقعها عند صومعة جريج فحملت منه، وكان أهل تلك البلدة يعظمون أمر الزنا، فظهر أمر تلك المرأة في البلد، فلما وضعت حملها أخبر الملك أن امرأة قد ولدت من الزنا، فدعاها، فقال: من أين لك هذا الولد ؟ قالت: من جريج الراهب، قد واقعني، فبعث الملك أعوانه إليه، وهو في الصلاة فنادوه، فلم يجبهم حتى جاءوا إليه بالمرور، وهدموا صومعته، وجعلوا في عنقه حبلا، وجاءوا به إلى الملك، فقال له الملك: إنك قد جعلت نفسك عابدا، ثم تهتك حريم الناس، وتتعاطى ما لا يحل لك. قال: أي شيء فعلت؟ قال: إنك قد زنيت بامرأة كذا، فقال: لم أفعل، فلم يصدقوه، وحلف على ذلك، ولم يصدقوه، فقال: ردوني إلى أمي فردوه إلى أمه، فقال لها: يا أماه، إنك قد دعوت الله علي، فاستجاب الله دعاءك، فادعي الله أن يكشف عني بدعائك، فقالت أمه: اللهم إن كان جريج إنما أخذته بدعوتي فاكشف عنه، فرجع جريج إلى الملك، فقال: أين هذه المرأة، وأين الصبي؟ فجاءوا بالمرأة والصبي، فسألوها فقالت: بلى، هذا الذي فعل بي، فوضع جريج يده على رأس الصبي، وقال: بحق الذي خلقك أن تخبرني من أبوك فتكلم الصبي بإذن الله تعالى، وقال: إن أبي فلان الراعي، فلما سمعت المرأة بذلك اعترفت، وقالت: كنت كاذبة، وإنما فعل بي فلان الراعي .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية: أن المرأة كانت حاملا لم تضع بعد، فقال لها: أين أصبتك ؟ قالت: تحت شجرة، وكانت الشجرة بجنب صومعته. قال جريج ، اخرجوا إلى تلك الشجرة، ثم قال: يا شجرة، أسألك بالذي خلقك أن تخبريني من زنا بهذه المرأة ؟ فقال كل غصن منها: راعي الغنم، ثم طعن بأصبعه في بطنها، وقال: يا غلام، من أبوك ؟ فنادى من بطنها: أبي راعي الضأن، فاعتذر الملك إلى جريج الراهب، وقال إيذن لي أبني صومعتك بالذهب. قال: لا، قال: بالفضة. قال: لا، ولكنه بالطين كما كانت فبنوه بالطين.

                                                                                                                                                                                  وفي كتاب البر والصلة لعبد الله بن المبارك من حديث الحسن أن اسمه كان جريا ، وأنهم لما أحاطوا به قال: بالله أما أنظرتموني ليالي أدعوا الله عز، وجل فأنظروه ليالي الله أعلم كم هي، فأتاه آت في منامه، فقال له: إذا اجتمع الناس فاطعن في بطن المرأة، وقل: أيتها السخلة، من أنت ؟ ومن أبوك ؟ فإنه سيقول: راعي الغنم، فلما أصبح طعن في بطن المرأة، وقال: أيتها السخلة، من أبوك ؟ قالت: راعي الغنم. قال الحسن : ذكر لي أن مولودا لم يتكلم في بطن أمه إلا هذا، وعيسى عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (وهو في صومعته) ، الواو فيه للحال، والصومعة على وزن فوعلة، من صمعت إذا دققت; لأنها دقيقة الرأس.

                                                                                                                                                                                  قوله: ( جريج ) ، بضم الجيم، وفتح الراء، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره جيم أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (اللهم أمي وصلاتي) ، أي: اجتمع إجابة أمي، وإتمام صلاتي، فوفقني لأفضلهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لا يموت جريج ) ، نفي في معنى الدعاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حتى ينظر) ، بضم الياء على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: (المياميس جمع مومسة) ، وهي الفاجرة المتجاهرة به، وفي التلويح المياميس: الزواني والفاجرات، الواحدة مومسة، والجمع مومسات ومياميس. وقال ابن الجوزي : إثبات الياء فيه غلط، والصواب حذفها ؟ (قلت): ليس بغلط; لأن العرب يشبعون الكسرة فتصير في صورة الياء، وقال ابن قرقول ، وبالياء رويناه، وكذا ذكره أصحاب العربية، ورواه السماك : المياميس، بضم الميم، وقال القزاز : قد يقال للخدم: مومسات.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يا بابوس) ، كلمة " يا " حرف نداء، و" بابوس " بفتح الباء الموحدة، وبعد الألف باء أخرى مضمومة، وبعد الواو الساكنة سين مهملة. قال القزاز : هو الصغير، ووزنه فاعول، فاؤه وعينه من جنس واحد، وهو قليل. وقيل: هو اسم أعجمي، وقيل: هو عربي، وقال الداودي : هو اسم ذلك الولد بعينه، وقال ابن بطال : هو الرضيع. وقال الكرماني : لو صحت الرواية بكسر السين، وتنوينها يكون كنية له، ومعناه: يا أبا شدة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه):

                                                                                                                                                                                  فيه دلالة على أن الكلام لم يكن ممنوعا في الصلاة في شريعتهم، فلما لم يجب أمه، والحال أن الكلام مباح له استجيبت دعوة أمه فيه، وقد كان الكلام مباحا أيضا في شريعتنا أولا، حتى نزلت: وقوموا لله قانتين . فأما الآن فلا يجوز للمصلي إذا دعت أمه أو غيرها أن يقطع صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وحق الله عز وجل الذي شرع فيه آكد من حق الأبوين حتى يفرغ منه، لكن العلماء يستحبون أن يخفف صلاته، ويجيب أبويه، وقال صاحب التوضيح: وصرح أصحابنا فقالوا: من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو دعا إنسانا، وهو في الصلاة، وجب عليه الإجابة، ولا تبطل صلاته، وحكى الروياني في البحر ثلاثة أوجه في إجابة أحد الوالدين: أحدها لا تجب الإجابة. ثانيها: تجب وتبطل. [ ص: 283 ] ثالثها: تجب ولا تبطل، والظاهر عدم الوجوب إن كانت الصلاة فرضا، وقد ضاق الوقت، وقال عبد الملك بن حبيب : كانت صلاته نافلة، وإجابة أمه أفضل من النافلة، وكان الصواب إجابتها; لأن الاستمرار في صلاة النفل تطوع، وإجابة أمه وبرها واجب، وكان يمكنه أن يخففها ويجيبها. قيل: لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا وتعلقاتها، وفي الوجوب في حق الأم حديث مرسل رواه ابن أبي شيبة ، عن حفص بن غياث ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن المنكدر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعتك أمك في الصلاة فأجبها ، وإن دعاك أبوك فلا تجبه . وقال مكحول : رواه الأوزاعي ، عنه، وقال العوام : سألت مجاهدا عن الرجل تدعوه أمه أو أبوه في الصلاة. قال: يجيبهما .

                                                                                                                                                                                  وعن مالك : إذا منعته أمه عن شهود العشاء في جماعة لم يطعها، وإن منعته عن الجهاد أطاعها، والفرق ظاهر; لأن الأمن غالب في الأول دون الثاني. وفي كتاب البر والصلة عن الحسن في الرجل تقول له أمه: أفطر. قال: يفطر، وليس عليه قضاء، وله أجر الصوم، وإذا قالت أمه له: لا تخرج إلى الصلاة فليس لها في هذا طاعة; لأن هذا فرض، وقالوا: إن مرسل ابن المنكدر الفقهاء على خلافه، ولم يعلم به قائل غير مكحول ، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمه فليجبها يعني بالتسبيح، وبما أبيح للمصلي الإجابة به، وقال ابن حبيب : من أتاه أبوه ليكلمه وهو في نافلة فليخفف ويسلم ويتكلم.

                                                                                                                                                                                  وفيه الاحتجاج لمن يقول: إن الزنا يحرم كما يحرم وطء الحلال. قال القرطبي : وهو رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وفي الموطإ عكسه: لا يحرم الزنا حلالا. قال: ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزاني لا تحل للزاني أم أمها، وهو المشهور، وقال ابن الماجشون : إنها تحل، ووجه التمسك على المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن جريج أنه نسب الزنا للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة، فكانت تلك النسبة صحيحة فيلزم على هذا أن تجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أن لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة، والمراد من ذلك تبيين هذا الصغير من ماء من كان، وسماه أبا مجازا أو يكون في شرعهم أنه يلحقه، وفيه دلالة على صحة وقوع الكرامات من الأولياء ، وهو قول جمهور أهل السنة والعلماء، خلافا للمعتزلة ، وقد نسب لبعض العلماء إنكارها، والذي نظنه بهم أنهم ما أنكروا أصلها لتجويز العقل لها، ولما وقع في الكتاب والسنة وأخبار صالحي هذه الأمة ما يدل على وقوعها، وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها ممن ليس موصوفا بشروطها، ولا هو أهل لها.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن كرامة الولي قد تقع باختياره، وطلبه، وهو الصحيح عند جماعة المتكلمين كما في حديث جريج ، ومنهم من قال: لا تقع باختياره وطلبه. وفيه أن الكرامة قد تقع بخوارق العادات على جميع أنواعها، ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه. قال بعض العلماء: هذا غلط من قائله، وإنكار للحس. وفيه دلالة على أن من أخذ بالشدة في أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوة على ذلك; لأن جريجا دعا الله في التزام الخشوع له في صلاته وفضله على الاستجابة لأمه، فعاقبه الله تعالى على ترك الاستجابة لها بما ابتلاه الله به من دعوة أمه عليه، ثم أراه فضل ما آثره من مناجاة ربه، والتزام الخشوع له أن جعل له آية معجزة في كلام الطفل، فخلصه بها من محنة دعوة أمه عليه. وفيه أن من ابتلي بشيئين يسأل الله تعالى أن يلقي في قلبه الأفضل، ويحمله على أولى الأمرين، فإن جريجا لما ابتلي بشيئين، وهو قوله: (اللهم أمي وصلاتي)، فاختار التزام مراعاة حق الله تعالى على حق أمه، وقال ابن بطال : قد يمكن أن يكون جريج نبيا; لأنه كان في زمن تمكن النبوة فيه.

                                                                                                                                                                                  وروى الليث بن سعد ، عن يزيد بن حوشب ، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: لو كان جريج الراهب فقيها عالما لعلم أن إجابة أمه خير من عبادة ربه . قال صاحب التوضيح، وحوشب : هذا هو ابن طخمة بالميم الحميري . (قلت): قال الذهبي في تجريد الصحابة: حوشب بن طخنة، وقيل: طخمة، يعني بالميم، الحميري الألهاني يعرف بذي ظليم أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعداده في أهل اليمن ، وكان مطاعا في قومه، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الأسود العنسي .

                                                                                                                                                                                  وفي تاريخ دمشق : كان على رجالة حمص يوم صفين ، ثم قال: حوشب له صحبة، وله حديث، ففي مسند الشاميين في مسند أحمد ، ولعله الأول، ثم قال حوشب بن يزيد الفهري مجهول روى عنه ابنه يزيد في ذكر جريج الراهب. وفيه عظم بر الوالدين ، وأن دعاءهما مستجاب، وعن هذا قال العلماء: إن إكرامهما واجب، ولو كانا كافرين حتى روي عن ابن عباس أن له أن يزور قبر والديه، ولو كانا كافرين، وتجب نفقتهما على الولد [ ص: 284 ] مع اختلاف الدين عند أصحابنا، وقال أبو عبد الملك : وهذا من عجائب بني إسرائيل ، يعني أمر جريج ، وهذا من أخبار الآحاد، وفي صحيح مسلم : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج ، والصبي الذي قالت أمه، ورأت رجلا له شارة: اللهم اجعل ابني مثله، فنزع الثدي من فمه، وقال: اللهم لا تجعلني مثله .

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ظاهر هذا يقتضي الحصر، ومع هذا روي عن ابن عباس شاهد يوسف كان في المهد، قاله القرطبي ، وعن الضحاك : تكلم في المهد أيضا: يحيى بن زكريا عليهما السلام، وفي حديث صهيب أنه لما خدد الأخدود تقاعست امرأة عن الأخدود، فقال لها صبيها وهو يرتضع منها: يا أمه، اصبري فإنك على الحق ؟ (قلت): الجواب عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن الثلاثة المذكورين في الصحيح ليس فيها خلاف، والباقون مختلف فيهم، وقال ابن عباس وعكرمة : كان صاحب يوسف ذا لحية، وقال مجاهد : الشاهد هو القميص، والجواب الآخر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك أولا، ثم أطلعه الله على غيرهم، وقد يقال: التنصيص على الشيء باسمه العلم لا يقتضي الخصوص، سواء كان المنصوص عليه باسمه العدد مقرونا، أو لم يكن ؟ (قلت): الخلاف فيه مشهور.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية