الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1215 36 - حدثنا أحمد بن محمد المكي قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن سعد ، عن أبيه قال : أتي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوما بطعامه ، فقال : قتل مصعب بن عمير وكان خيرا مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، وقتل حمزة ، أو رجل آخر خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ; لقد خشيت أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة " وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير في بردته وحمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه في بردته ، ولم يلتفت إلى غريم ولا إلى وصية ولا إلى وارث ، وبدأ بالتكفين على ذلك كله ، فعلم أن التكفين مقدم ، وأنه من جميع المال ; لأن جميع ما لهما كان لكل منهما بردة .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله .

                                                                                                                                                                                  وهم خمسة الأول أحمد بن محمد المكي الأزرقي أبو محمد . ويقال : الزرقي . الثاني : إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، مر في باب تفاضل أهل الإيمان . الثالث أبوه سعد بن إبراهيم ، كان قاضي المدينة ، مات سنة خمس وعشرين ومائة . الرابع أبو سعد إبراهيم بن عبد الرحمن . الخامس : عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرة ، أسلم قديما على يد الصديق ، وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد ، وثبت يوم أحد وجرح عشرين جراحة ، وأكثر وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه يوم تبوك ، مات سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن في البقيع .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده :

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وفيه الثلاثة البقية مدنيون ، وفيه إبراهيم يروي عن أبيه عن جده عن جد أبيه . توضيحه إبراهيم يروي عن أبيه سعد ، وسعد يروي عن أبيه إبراهيم ، وإبراهيم يروي عن أبيه عبد الرحمن ، فإبراهيم يروي عن أبيه ، عن جده إبراهيم ، ويروي عن جد أبيه عبد الرحمن فافهم .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه البخاري في الجنائز عن محمد بن مقاتل ، وفي المغازي عن عبدان ، كلاهما عن عبد الله بن المبارك ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم به .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 59 ] ذكر معناه . قوله : " أتي " بضم الهمزة على صيغة المجهول ، وعبد الرحمن بالرفع ; لأنه نائب عن الفاعل . قوله: " قتل " على صيغة المجهول أيضا ، ومصعب بن عمير مرفوع كذلك ، وهو بضم الميم وسكون الصاد وفتح العين المهملتين ، وعمير بضم العين مصغر عمرو القرشي العبدري ، كان من أجلة الصحابة ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يقرئهم القرآن ، ويفقههم في الدين ، وهو أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة ، وكان في الجاهلية من أنعم الناس عيشا ، وألينهم لباسا ، وأحسنهم جمالا ، فلما أسلم زهد في الدنيا وتقشف وتحشف ، وفيه نزل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه قتل يوم أحد شهيدا رضي الله تعالى عنه . قوله: " وكان خيرا مني " يعني قال عبد الرحمن : كان مصعب خيرا مني ، إنما قال هذا القول تواضعا وهضما لنفسه كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس ابن متى " ، وإلا فعبد الرحمن من العشرة المبشرة . قوله: " إلا بردة " واحدة البرود ، وهو رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره: " إلا برده " بالضمير العائد عليه ، والبردة بضم الباء الموحدة النمرة كالمئزر ، وربما اتزر به ، وربما ارتدى ، وربما كان لأحدهم بردتان يترز بأحدهما ، ويرتدي بالأخرى ، وربما كانت كبيرة . وقيل : النمرة كل شملة مخططة من ميازر العرب ، وقال القتبي : هي بردة تلبسها الإماء ، وقال ثعلب : هي ثوب مخططة تلبسها العجوز ، وقيل : كساء ملون ، وقال الفراء : هي دراعة تلبس ، أو تجعل على الرأس فيها لونان سواد وبياض . قوله : " وقتل حمزة " وهو حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة يقال له : " أسد الله " ، وحين أسلم اعتز الإسلام بإسلامه ، استشهد يوم أحد ، وهو سيد الشهداء ، وفضائله كثيرة جدا . قوله : " أو رجل آخر " لم يعرف هذا الرجل ، ولم يقع هذا في أكثر الروايات ، ولم يذكر إلا حمزة ومصعب ، وكذا أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريق منصور بن أبي مزاحم ، عن إبراهيم بن سعد . قوله: " لقد خشيت " إلى آخره من كلام عبد الرحمن ، وكان خوفه وبكاؤه وإن كان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة مما كان عليه الصحابة من الإشفاق والخوف من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى وطول الحساب .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : فيه ما ترجم البخاري من أن الكفن من جميع المال ، وهو قول جمهور العلماء . وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كفن حمزة ومصعبا في برديهما ، وهو يدل على جواز التكفين في ثوب واحد عند عدم غيره ، والأصل ستر العورة ، وإنما استحب لهما صلى الله عليه وسلم التكفين في تلك الثياب التي ليست بسابغة ; لأنهما فيها قتلا ، وفيهما يبعثان إن شاء الله تعالى ، وفيه أن العالم يذكر سيرة الصالحين وتقللهم من الدنيا لتقل رغبته فيها ، ويبكي خوفا من تأخر لحاقه بالأخيار ، ويشفق من ذلك ، وفيه أنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعم الله عنده ، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها ، ويتخوف أن يقاص بها في الآخرة ، ويذهب سعيه فيها .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية