النوع الخامس والثلاثون
معرفة المصحف من أسانيد الأحاديث ومتونها
هذا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ، والدارقطني منهم، وله فيه تصنيف مفيد.
وروينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: "ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟"
فمثال التصحيف في الإسناد حديث شعبة عن العوام بن مراجم، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها ..." الحديث، صحف فيه يحيى بن معين فقال : " ابن مزاحم " بالزاي والحاء، فرد عليه، وإنما هو " ابن مراجم" بالراء المهملة والجيم .
ومنه : ما رويناه عن أحمد بن حنبل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير، عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الدباء والمزفت " قال أحمد: "صحف شعبة فيه، فإنما هو خالد بن علقمة" وقد رواه زائدة بن قدامة وغيره على ما قاله أحمد.
وبلغنا عن الدارقطني: أن ابن جرير الطبري قال فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني سليم : "ومنهم عتبة بن البذر " قاله بالباء والذال المعجمة، وروى له حديثا، وإنما هو " ابن الندر " بالنون والدال غير المعجمة .
ومثال التصحيف في المتن : ما رواه ابن لهيعة، عن كتاب موسى بن عقبة إليه، بإسناده عن زيد بن ثابت "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في المسجد" وإنما هو بالراء "احتجر في المسجد بخص أو حصير حجرة يصلي فيها " فصحفه ابن لهيعة، لكونه أخذه من كتاب بغير سماع ، ذكر ذلك مسلم في كتاب التمييز له .
وبلغنا عن الدارقطني في حديث أبي سفيان عن جابر قال: "رمي أبي يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن غندرا قال فيه "أبي" وإنما هو " أبي " وهو ابن كعب .
وفي حديث أنس: " ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " قال فيه شعبة " ذرة" بالضم والتخفيف، ونسب فيه إلى التصحيف .
وفي حديث أبي ذر " تعين الصانع " قال فيه هشام بن عروة : بالضاد المعجمة، وهو تصحيف، والصواب ما رواه الزهري " الصانع" بالصاد المهملة، ضد الأخرق .
وبلغنا عن أبي زرعة الرازي أن يحيى بن سلام - هو المفسر - حدث عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى: سأريكم دار الفاسقين قال: " مصر" واستعظم أبو زرعة هذا واستقبحه، وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة " مصيرهم ".
وبلغنا عن الدارقطني أن محمد بن المثنى أبا موسى العنزي حدث بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يأتي أحدكم يوم القيامة ببقرة لها خوار " فقال فيه : "أو شاة تنعر " بالنون، وإنما هو " تيعر" بالياء المثناة من تحت، وأنه قال لهم يوما "نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة، قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا " يريد ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة" توهم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العنزة هاهنا حربة، نصبت بين يديه فصلى إليها .
وأطرف من هذا ما رويناه عن الحاكم أبي عبد الله، عن أعرابي زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى نصبت بين يديه شاة، أي صحفها عنزة بإسكان النون .
وعن الدارقطني أيضا أن أبا بكر الصولي أملى في الجامع حديث أبي أيوب: " من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال " فقال فيه "شيئا" بالشين والياء .
وأن أبا بكر الإسماعيلي الإمام كان - فيما بلغهم عنه - يقول في حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكهان: " قر الزجاجة " بالزاي، وإنما هو "قر الدجاجة" بالدال .
وفي حديث يروى عن معاوية بن أبي سفيان قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر " ذكر الدارقطني عن وكيع أنه قاله مرة بالحاء المهملة وأبو نعيم شاهد، فرده عليه بالخاء المعجمة المضمومة .
وقرأت بخط مصنف أن ابن شاهين قال في جامع المنصور في الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تشقيق الحطب " فقال بعض الملاحين : يا قوم! فكيف نعمل والحاجة ماسة .
قلت : فقد انقسم التصحيف إلى قسمين : أحدهما في المتن، والثاني في الإسناد .
وينقسم قسمة أخرى إلى قسمين :
أحدهما : تصحيف البصر، كما سبق عن ابن لهيعة وذلك هو الأكثر .
والثاني : تصحيف السمع، نحو حديث ( لعاصم الأحول) رواه بعضهم فقال: " عن واصل الأحدب" فذكر الدارقطني أنه من تصحيف السمع، لا من تصحيف البصر، كأنه ذهب - والله أعلم - إلى أن ذلك مما لا يشتبه من حيث الكتابة، وإنما أخطأ فيه سمع من رواه .
وينقسم قسمة ثالثة : إلى تصحيف اللفظ، وهو الأكثر، وإلى تصحيف يتعلق بالمعنى دون اللفظ، كمثل ما سبق عن محمد بن المثنى في الصلاة إلى عنزة .
وتسمية بعض ما ذكرناه تصحيفا مجاز.
وكثير من التصحيف المنقول عن الأكابر الجلة لهم فيه أعذار ينقلها ناقلوه، ونسأل الله التوفيق والعصمة، وهو أعلم .
النوع السادس والثلاثون: معرفة مختلف الحديث
وإنما يكمل للقيام به الأئمة الجامعون بين صناعتي الحديث والفقه، الغواصون على المعاني الدقيقة .
اعلم أن ما يذكر في هذا الباب ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : أن يمكن الجمع بين الحديثين، ولا يتعذر إبداء وجه ينفي تنافيهما، فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك والقول بهما معا.
ومثاله : حديث : "لا عدوى ولا طيرة " مع حديث: "لا يورد ممرض على مصح " وحديث: " فر من المجذوم فرارك من الأسد ". وجه الجمع بينهما أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن الله تبارك وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإعدائه مرضه . ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب ، ففي الحديث الأول نفى صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقده الجاهلي من أن ذلك يعدي بطبعه، ولهذا قال: " فمن أعدى الأول؟" وفي الثاني : أعلم بأن الله - سبحانه - جعل ذلك سببا لذلك، وحذر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجوده، بفعل الله - سبحانه وتعالى -.
ولهذا في الحديث أمثال كثيرة . و (كتاب مختلف الحديث) لابن قتيبة في هذا المعنى إن يكن قد أحسن فيه من وجه فقد أساء في أشياء منه قصر باعه فيها وأتى بما غيره أولى وأقوى .
وقد روينا عن محمد بن إسحاق بن خزيمة الإمام أنه قال: "لا أعرف أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان بإسنادين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما ".
القسم الثاني : أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وذلك على ضربين :
أحدهما : أن يظهر كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ.
والثاني : أن لا تقوم دلالة على أن الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما ، فيفزع حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأثبت، كالترجيح بكثرة الرواة، أوبصفاتهم في خمسين وجها من وجوه الترجيحات وأكثر، ولتفصيلها موضع غير ذا، والله سبحانه أعلم .
[ ص: 841 ] [ ص: 842 ] [ ص: 843 ] [ ص: 844 ] [ ص: 845 ] [ ص: 846 ]


