[ مهر السر ومهر العلن    ] 
قيل : هذا ينبني على أصل ، وهو إذا اتفقا في السر على مهر وسموا في العلانية أكثر  [ ص: 74 ] منه : هل يؤخذ بالسر أو بالعلانية ؟ فهذه المسألة مما اضطربت فيها أقوال المتأخرين ; لعدم إحاطتهم بمقاصد الأئمة ، ولا بد من كشف غطائها ، ولها في الأصل صورتان : إحداهما : أن يعقدوه في العلانية بألفين مثلا ، وقد اتفقوا قبل ذلك أن المهر ألف وأن الزيادة سمعة ، من غير أن يعقدوه في العلانية بالأقل ; فالذي عليه  القاضي  ومن بعده من أصحاب  أحمد  أن المهر هو المسمى في العقد ، ولا اعتبار بما اتفقوا عليه قبل ذلك ، وإن قامت به البينة أو تصادقوا عليه ، وسواء كان مهر العلانية من جنس مهر السر أو من جنس غيره أو أقل منه أو أكثر ، قالوا : وهو ظاهر كلام  أحمد  في مواضع . 
قال في رواية ابن بدينا  في الرجل يصدق صداقا في السر وفي العلانية شيئا آخر ; يؤخذ بالعلانية ، وقال في رواية  ابن الحارث    : إذا تزوجها في العلانية على شيء وأسر غير ذلك أخذنا بالعلانية وإن كان قد أشهد في السر بغير ذلك ، وقال في رواية  الأثرم  في رجل أصدق صداقا سرا وصداقا علانية : يؤخذ بالعلانية إذا كان قد أقر به ، قيل له : فقد أشهد شهودا في السر بغيره ؟ قال : وإن ، أليس قد أقر بهذا أيضا عند شهود ؟ يؤخذ بالعلانية . 
قال شيخنا    : ومعنى قوله " أقر به " أي رضي به والتزمه لقوله تعالى : { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري    } وهذا يعم التسمية في العقد والاعتراف بعده ، ويقال : أقر بالجزية ، وأقر للسلطان بالطاعة ، وهذا كثير في كلامهم ، وقال في رواية صالح  في الرجل يعلن مهرا ويخفي آخر ; آخذ بما يعلن ; لأن العلانية قد أشهد 
[ بها ] على نفسه ، وينبغي لهم أن يفوا له بما كان أسره ، وقال في رواية ابن منصور    : إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرا آخر ينبغي لهم أن يفوا ، وأما هو فيؤخذ بالعلانية . 
قال  القاضي  وغيره : فقد أطلق القول بمهر العلانية ، وإنما قال : ينبغي لهم أن يفوا بما أسروا ، على طريق الاختيار ; لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك ، وهذا القول هو قول الشعبي   وأبي قلابة   وابن أبي ليلى   وابن شبرمة  والأوزاعي  ، وهو قول  الشافعي  المشهور عنه ، وقد نص في موضع آخر أنه يؤخذ بمهر السر ، فقيل : في هذه المسألة قولان ، وقيل : بل ذلك في الصورة الثانية كما سيأتي ، وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم : إذا علم الشهود أن المهر الذي يظهره سمعة وأن أصل المهر كذا وكذا ثم تزوج وأعلن الذي قال فالمهر هو السر ، والسمعة باطلة ، وهذا هو قولالزهري  والحكم بن عتيبة   ومالك   والثوري   والليث   وأبي حنيفة  وأصحابه وإسحاق  ، وعن  شريح  والحسن  كالقولين ، وذكر القاضي عن  أبي حنيفة  أنه يبطل المهر ويجب مهر المثل ، وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم ، وقد نقل عن  أحمد  ما يقتضي أن الاعتبار بالسر إذا ثبت أن العلانية تلجئة ، فقال : إذا كان رجل قد أظهر صداقا  [ ص: 75 ] وأسر غير ذلك نظر في البينات والشهود ، وكأن الظاهر أوكد ، إلا أن تقوم بينة تدفع العلانية ، قال  القاضي    : وقد تأول  أبو حفص العكبري  هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية غير عدول ، فحكم بالعدول ، قال  القاضي    : وظاهر هذا أنه يحكم بمهر السر إذا لم تقم بينة عادلة بمهر العلانية . 
وقال أبو حفص    : إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر أن الذي يظهر في العلانية الرياء والسمعة فينبغي لهم أن يفوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم { المؤمنون على شروطهم   } قال  القاضي    : وظاهر هذا الكلام من أبي حفص  أنه قد جعل للسر حكما ، قال : والمذهب على ما ذكرناه ، قال شيخنا    : كلام أبي حفص  الأول فيما إذا قامت البينة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل ، ولم يثبت نكاح العلانية ، وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية ، ولكن تشارطوا أن ما يظهرون من الزيادة على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة ، قال شيخنا    : وهذا الذي ذكره أبو حفص  أشبه بكلام الإمام  أحمد  وأصوله ; فإن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة ولم تثبت بينة ولا اعتراف أن مهر العلانية سمعة ، بل شهدت البينة أنه تزوجها بالأكثر وادعى عليه ذلك  فإنه يجب أن يؤخذ بما أقر به إنشاء أو إخبارا ; فإذا أقام شهودا يشهدون أنهم تراضوا بدون ذلك البينة الأولى ; لأن التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر ، ألا ترى أنه قال : آخذ بالعلانية لأنه قد أشهد على نفسه ، وينبغي لهم أن يفوا بما كان أسره ; فقوله " لأنه قد أشهد على نفسه " دليل على أنه إنما يلزمه في الحكم فقط ، وإلا فما يجب بينه وبين الله لا يعلل بالإشهاد ، وكذلك قوله " ينبغي لهم أن يفوا له ، وأما هو فيؤخذ بالعلانية " دليل على أنه يحكم عليه به وأن أولئك يجب عليهم الوفاء ، وقوله " ينبغي " يستعمل في الواجب أكثر مما يستعمل في المستحب ، ويدل على ذلك أنه قد قال أيضا في امرأة تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة فاختلفوا في ذلك : فإن كانت البينة في السر والعلانية سواء أخذ بالعلانية لأنه أحوط وهو فرج يؤخذ بالأكثر ، وقيدت المسألة بأنهم اختلفوا وأن كليهما قامت به بينة عادلة . 
وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية ، وهو ما إذا تزوجها في السر بألف ، ثم تزوجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول ، فهنا قال  القاضي  في المجرد والجامع : إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر ; لأن النكاح المتقدم قد صح ولزم ،  [ ص: 76 ] والنكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم ، ويحمل مطلق كلام  أحمد   والخرقي  على مثل هذه الصورة ، وهذا مذهب  الشافعي  ، وقال  الخرقي    : إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذ بالعلانية وإن كان السر قد انعقد النكاح به ، وهذا منصوص كلام  أحمد  في قوله : إن تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة ، وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها ، وهذا هو الذي ذكره  القاضي  في خلافه ، وعليه أكثر الأصحاب ، ثم طريقته وطريقة جماعة في ذلك أن ما أظهراه زيادة في المهر ، والزيادة فيه بعد لزومه لازمة ، وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر أخذ به أيضا ، وهو معنى قول الإمام  أحمد    " آخذ بالعلانية " أي يؤخذ بالأكثر ، ولهذا القول طريقة ثانية ، وهو أن نكاح السر  إنما يصح إذا لم يكتموه على إحدى الروايتين بل أنصتهما ; فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة إنما هي بالنكاح الثاني    . 
فقد تحرر أن الأصحاب مختلفون : هل يؤخذ بصداق العلانية ظاهرا وباطنا أو ظاهرا فقط ؟ فيما إذا كان السر تواطؤا من غير عقد ، وإن كان السر عقدا فهل هي كالتي قبلها أو يؤخذ هنا بالسر في الباطن بلا تردد ؟ على وجهين ; فمن قال إنه يؤخذ به ظاهرا فقط وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم أن يأخذوا إلا بما اتفقوا عليه لم يرد نقضا ، وهذا قول له شواهد كثيرة ، ومن قال إنه يؤخذ به ظاهرا وباطنا بنى ذلك على أن المهر من توابع النكاح وصفاته فيكون ذكره سمعة كذكره هزلا والنكاح جده وهزله سواء فكذلك ذكر ما هو فيه ، يحقق ذلك أن حل البضع مشروط بالشهادة على العقد ، والشهادة وقعت على ما أظهره ; فيكون وجوب المشهود به شرطا في الحل . 
هذا كلام شيخ الإسلام  في مسألة مهر السر والعلانية في كتاب إبطال التحليل نقلته بلفظه . 
ولهذه المسألة عدة صور هذه إحداها . الثانية : أن يتفقا في السر على أن ثمن المبيع ألف ويظهرا في العلانية أن ثمنه ألفان  ، فقال  القاضي  في التعليق القديم والشريف أبو جعفر  وغيرهما : الثمن ما أظهراه ، على قياس المشهور عنه في المهر أن العبرة بما أظهراه وهو الأكثر ، وقال  القاضي  في التعليق الجديد  وأبو الخطاب  وأبو الحسين  وغيرهم من أصحاب القاضي : الثمن ما أسراه ، والزيادة سمعة ورياء ، بخلاف المهر ، وإلحاقا للعوض في البيع بنفس البيع ، وإلحاقا للمهر بالنكاح ، وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي غير لاحقة ، وقال  أبو حنيفة  عكس هذا ، بناء على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح ، وقال صاحباه : العبرة في الجميع بما أسراه .  [ ص: 77 ] الصورة الثالثة : أن يتفقا في عقد البيع على أن يتبايعا شيئا بثمن ذكراه على أنه بيع تلجئة لا حقيقة له تخلصا من ظالم يريد أخذه    ; فهذا عقد باطل ; وإن لم يقولا في صلب العقد " قد تبايعناه تلجئة " قال  القاضي    : هذا قياس قول  أحمد    ; لأنه قال فيمن تزوج امرأة واعتقد أنه يحلها للأول    : لم يصح هذا النكاح ، وكذلك إذا باع عنبا ممن يعتقد أنه يعصره خمرا  ، قال : وقد قال  أحمد  في رواية ابن منصور    : إنه إذا أقر لامرأة بدين في مرضه ثم تزوجها ومات وهي وارثة  فهذه قد أقر لها وليست بزوجة ، يجوز ذلك ، إلا أن يكون أراد تلجئة فيرد ، ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم  والمروزي  ، وهذا قول  أبي يوسف   ومحمد  ، وهو قياس قول  مالك    . 
وقال  أبو حنيفة   والشافعي    : لا يكون تلجئة حتى يقولا في العقد " قد تبايعنا هذا العقد تلجئة " ومأخذ من أبطله أنهما لم يقصدا العقد حقيقة ، والقصد معتبر في صحته ، ومأخذ من يصححه أن هذا شرط مقدم على العقد ، والمؤثر في العقد إنما هو الشرط المقارن . 
والأولون منهم من يمنع المقدمة الأولى ويقول : لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن ، ومنهم من يقول : إنما ذلك في الشرط الزائد على العقد ، بخلاف الرافع له فإن الشارط هنا يجعل العقد غير مقصود ، وهناك هو مقصود ، وقد أطلق عن شرط مقارن . 
الصورة الرابعة : أن يظهرا نكاحا تلجئة لا حقيقة له ; فاختلف الفقهاء في ذلك ; فقال  القاضي  وغيره من الأصحاب : إنه صحيح كنكاح الهازل ; لأن أكثر ما فيه أنه غير قاصد للعقد ، بل هازل به ، ونكاح الهازل  صحيح . 
قال شيخنا    : ويؤيد هذا أن المشهور عندنا أنه لو شرط في العقد رفع موجبه  مثل أن يشترط أنه لا يطؤها أو أنها لا تحل له أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك - صح العقد دون الشرط ; فالاتفاق على التلجئة حقيقته أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدا لا يقتضي موجبه ، وهذا لا يبطله . 
قال شيخنا    : ويتخرج في نكاح التلجئة  أنه باطل لأن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا ، ولو شرطا في العقد أنه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحا باطلا ، وإن قيل إن فيه خلافا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كما لو شرطا أنها لا تحل له ، وهذا الشرط يفسد العقد على الخلاف المشهور . 
الصورة الخامسة : أن يتفقا على أن العقد عقد تحليل ، لا نكاح رغبة ، وأنه متى دخل بها طلقها أو فهي طالق ، أو أنها متى اعترفت بأنه وصل إليها فهي طالق ثم يعقداه مطلقا وهو في الباطن نكاح تحليل لا نكاح رغبة  ، فهذا محرم باطل ، لا تحل به الزوجة للمطلق ، وهو داخل تحت اللعنة ، مع تضمن زيادة الخداع كما سماه السلف بذلك ، وجعلوا فاعله  [ ص: 78 ] مخادعا لله ، وقالوا : من يخادع الله يخدعه ، وعلى بطلان هذا النكاح نحو ستين دليلا . 
والمقصود أن المتعاقدين وإن أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن فالعبرة لما أضمراه واتفقا عليه وقصداه بالعقد ، وقد أشهدا الله على ما في قلوبهما فلا ينفعهما ترك التكلم به حالة العقد ، وهو مطلوبهما ومقصودهما . 
الصورة السادسة : أن يحلف الرجل في شيء في الظاهر ، وقصده ونيته خلاف ما حلف عليه ، وهو غير مظلوم    ; فهذا لا ينفعه ظاهر لفظه ، ويكون يمينه على ما يصدقه عليه صاحبه اعتبارا بمقصده ونيته . 
الصورة السابعة : إذا اشترى أو استأجر مكرها  لم يصح ، وإن كان في الظاهر قد حصل صورة العقد ; لعدم قصده وإرادته ; فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومبطله ، فاعتبار المقصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ ; فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ، ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها ، فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارا لما قد يسوغ إلغاؤه ، وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه ؟ بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن أنه المراد ، وكيف ينكر على أهل الظاهر  من يسلك هذا ؟ وهل ذلك إلا من إيراد الظاهرية ؟ فإن أهل الظاهر  تمسكوا بألفاظ النصوص وأجروها على ظواهرها حيث لا يحصل القطع بأن المراد خلافها ، وأنتم تمسكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأن المراد خلافها ، فأهل الظاهر  أعذر منكم بكثير ، وكل شبهة تمسكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظاهرية في تمسكهم بظواهر النصوص أقوى وأصح ، والله تعالى يحب الإنصاف ، بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجل ، خصوصا من نصب نفسه حكما بين الأقوال والمذاهب ، وقد قال الله تعالى لرسوله : { وأمرت لأعدل بينكم    } فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه ، بل يكون الحق مطلوبه ، يسير بسيره وينزل بنزوله ، يدين دين العدل والإنصاف ويحكم الحجة ، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو العلم الذي قد شمر إليه ، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه ، لا يثني عنانه عنه عذل عاذل ، ولا تأخذه فيه لومة لائم ، ولا يصده عنه قول قائل . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					