الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ استنباط من قصة يوسف وتعقيب عليه ] .

وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق .

قال شيخنا رضي الله عنه : وهذه الحجة ضعيفة ; فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال إنه قد اقتص منه ، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك ، نعم تخلفه عنده كان يؤذيهم من أجل تأذي أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم ، وقد استثنى في الميثاق بقوله : { إلا أن يحاط بكم } وقد أحيط بهم ، ولم يكن قصد يوسف باحتباس أخيه الانتقام من إخوته ; فإنه كان أكرم من هذا ، وكان في ذلك من الإيذاء لأبيه

. أعظم مما فيه من إيذاء إخوته ، وإنما هو أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف كمال الجزاء ، وتبلغ حكمة الله التي قضاها لهم نهايتها .

ولو كان يوسف قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء ; فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به ، وإنما موضع الخلاف : هل يجوز له أن يسرق أو يخون من سرقه أو خانه مثل ما سرق منه أو خانه إياه ؟ وقصة يوسف لم تكن من هذا الضرب . نعم ، لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة ، مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضا ; فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق ، وهو أن يحبس رجل بريء ، ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم ، ولو قدر أن ذلك وقع من يوسف فلا بد أن يكون بوحي من الله ابتلاء منه لذلك المعتقل ، كما ابتلى إبراهيم بذبح ابنه ، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي الذي جاء إبراهيم بذبح ابنه ، وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه ، وتكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه ، وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها ومن حال يوسف .

ولهذا قال تعالى : { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع [ ص: 171 ] درجات من نشاء ، وفوق كل ذي علم عليم } فنسب الله تعالى هذا الكيد إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله : { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا } ، وفي قوله : { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا } ، وفي قوله : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } .

وقد قيل : إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ، ونحو قوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقيل وهو أصوب : بل تسميته بذلك حقيقة على بابه ; فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي ، وكذلك الكيد والمخادعة ، ولكنه نوعان : قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه ، وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له ; فالأول مذموم والثاني ممدوح ، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة ، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباده .

وأما السيئة فهي فيعلة مما يسوء ، ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها ; فهي سيئة له حسنة من الحكم العدل ، وإذا عرفت ذلك فيوسف الصديق كان قد كيد غير مرة : أولها أن إخوته كادوا به كيدا حيث احتالوا به في التفريق بينه وبين أبيه ، ثم إن امرأة العزيز كادته بما أظهرت أنه راودها عن نفسها ثم أودع السجن ، ثم إن النسوة كادوه حتى استعاذ

. بالله من كيدهن فصرفه عنه ، وقال له يعقوب : { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } وقال الشاهد لامرأة العزيز : { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } . وقال : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، إن ربي بكيدهن عليم } فكاد الله له أحسن كيد وألطفه وأعدله ، بأن جمع بينه وبين أخيه ، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره ، وكاد له عوض كيد المرأة بأن أخرجه من ضيق السجن إلى فضاء الملك ، ومكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، وكان له في تصديق النسوة اللاتي كذبنه وراودنه حتى شهدن ببراءته وعفته ، وكاد له في تكذيب امرأة العزيز لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وأنه من الصادقين ; فهذه عاقبة من صبر على كيد الكائد له بغيا وعدوانا .

التالي السابق


الخدمات العلمية