الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ الكلام على قصة يوسف وجعله الصواع في رحل أخيه ]

وأما إخباره سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه وكيد إخوته ، فنقول لأرباب الحيل : [ ص: 167 ] أولا : هل تجوزون أنتم مثل هذا حتى يكون حجة لكم ؟ وإلا فكيف تحتجون بما لا تجوزون فعله ؟ ، فإن قلتم : فقد كان جائزا في شريعته ، قلنا : وما ينفعكم إذا لم يكن جائزا في شرعنا ؟

قال شيخنا رضي الله عنه : مما قد يظن أنه من جنس الحيل التي بينا تحريمها وليس من جنسها قصة يوسف حين كاد الله له في أخذ أخيه كما قص ذلك تعالى في كتابه ، فإن فيه ضروبا من الحيل الحسنة : أحدها : قوله لفتيانه : { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم ، وقد ذكروا في ذلك معاني :

منها أنه تخوف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها ، ومنها أنه خشي أن يضر أخذ الثمن بهم ، ومنها أنه رأى لو ما أخذ الثمن منهم ، ومنها أنه أراهم كرمه في رد البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العود ، ومنها أنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى العود ليردوها إليه ; فهذا المحتال به عمل صالح ، والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه ، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله ، وهو مقصود صالح ، وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها أيضا منفعة لهم وله ولأبيهم وتمام لما أراده الله بهم من الخير في البلاء .

الضرب الثاني : أنه في المرة الثانية لما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ، وهذا القدر تضمن إيهام أن أخاه سارق ، وقد ذكروا أن هذا كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك ، والحق له في ذلك ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون } وفيه قولان : أحدهما : أنه عرفه أنه يوسف ووطنه على عدم الابتئاس بالحيلة التي فعلها في أخذه منهم ، والثاني : أنه لم يصرح له بأنه يوسف ، وإنما أراد إني مكان أخيك المفقود فلا تبتئس بما يعاملك به إخوتك من الجفاء .

ومن قال هذا قال : إنه وضع السقاية في رحل أخيه والأخ لا يشعر ، ولكن هذا خلاف المفهوم من القرآن وخلاف ما عليه الأكثرون ، وفيه ترويع لمن لم يستوجب الترويع . وأما على القول الأول فقد قال كعب وغيره : لما قال له إني أنا أخوك ، قال : فأنا لا أفارقك .

قال يوسف : فقد علمت اغتمام والدي بي ، فإذا حبستك ازداد غمه ، ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحتمل ، قال : لا أبالي . فافعل ما بدا لك فإني لا [ ص: 168 ] أفارقك ، قال : فإني أدس صواعي .

هذا في رحلك ، ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك ، قال : فافعل ; وعلى هذا فهذا التصرف إنما كان بإذن الأخ ورضاه .

ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير عن عدي بن حاتم أنه لما هم قومه بالردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفهم عن ذلك ، وأمرهم بالتربص ، وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة أن يبعد ، فإذا جاء خاصمه بين يدي قومه وهم بضربه ، فيقومون فيشفعون إليه فيه ; ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدا ، فلما كان ذات ليلة أمره أن يبعد بها جدا ، وجعل ينتظره بعدما دخل الليل وهو يلوم قومه على شفاعتهم ومنعهم إياه من ضربه ، وهم يعتذرون عن ابنه ، ولا ينكرون إبطاءه ، حتى إذا انهار الليل ركب في طلبه فلحقه ، واستاق الإبل حتى قدم بها على أبي بكر رضي الله عنهما ; فكانت صدقات طيئ مما استعان بها أبو بكر في قتال أهل الردة .

وكذلك في الحديث الصحيح أن عديا قال لعمر رضي الله عنه : أما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ قال : بلى ، أعرفك ، أسلمت إذ كفروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا ، وعرفت إذ أنكروا .

ومثل هذا ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم للوفد الذين أرادوا قتل كعب بن الأشرف أن يقولوا ، وأذن للحجاج بن علاط عام خيبر أن يقول ، وهذا كله من الاحتيال المباح ; لكون صاحب الحق قد أذن فيه ورضي به ، والأمر المحتال عليه طاعة لله وأمر مباح .

الضرب الثالث : أنه أذن مؤذن : { أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم : ماذا تفقدون قالوا : نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير ، وأنا به زعيم } إلى قوله : { فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين :

أحدهما : أنه من باب المعاريض وأن يوسف نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوا عليه ، وخانوه فيه ، والخائن يسمى سارقا ، وهو من الكلام المرموز ، ولهذا يسمى خونة الدواوين لصوصا . الثاني : أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف .

قال القاضي أبو يعلى وغيره : أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصواع في رحل أخيه ، ثم قال بعض الموكلين وقد فقدوه ولم يدر من أخذه : { أيتها العير إنكم لسارقون } [ ص: 169 ] على ظن منهم أنهم كذلك ، من غير أمر يوسف لهم بذلك ، أو لعل يوسف قد قال للمنادي : هؤلاء سرقوا ، وعنى أنهم سرقوه من أبيه ، والمنادي فهم سرقة الصواع فصدق يوسف في قوله ، وصدق المنادي ، وتأمل حذف المفعول في قوله : { إنكم لسارقون } ليصح أن يضمن سرقتهم ليوسف فيتم التعريض ، ويكون الكلام صدقا ، وذكر المفعول في قوله : { نفقد صواع الملك } وهو صادق في ذلك ، فصدق في الجملتين معا تعريضا وتصريحا ، وتأمل قول يوسف : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } ولم يقل إلا من سرق ، وهو أخصر لفظا ، تحريا للصدق ، فإن الأخ لم يكن سارقا بوجه ، وكان المتاع عنده حقا ; فالكلام من أحسن المعاريض وأصدقها .

ومثل هذا قول الملكين لداود عليه السلام : { خصمان بغى بعضنا على بعض } إلى قوله : { وعزني في الخطاب } أي غلبني في الخطاب ، ولكن تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتى ، وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال : أي إذا كان كذلك فكيف الحكم بيننا .

ونظير هذا قول الملك للثلاثة الذين أراد الله أن يبتليهم : " مسكين وغريب وعابر سبيل ، وقد تقطعت بي الحبال ، ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرا أتبلغ به في سفري هذا " وهذا ليس بتعريض ، وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال وإيهام أني أنا صاحب هذه القضية كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة ليتم الامتحان .

ولهذا قال نصر بن حاجب : سئل ابن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله ، ويحرف القول فيه ليرضيه ، لم يأثم في ذلك ؟ فقال : ألم تسمع قوله : { ليس بكاذب من أصلح بين الناس يكذب فيه } فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم من بعض ، وذلك إذا أراد به مرضاة الله ، وكره أذى المؤمن ، ويندم على ما كان منه ، ويدفع شره عن نفسه ، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعا في شيء يصيب منهم ; فإنه لم يرخص في ذلك ، ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم . قال حذيفة : إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه .

قال سفيان وقال الملكان : { خصمان بغى بعضنا على بعض } أراد معنى شيء [ ص: 170 ] ولم يكونا خصمين فلم يصيرا بذلك كاذبين ، وقال إبراهيم : { إني سقيم } وقال : { بل فعله كبيرهم هذا } ، وقال يوسف : { إنكم لسارقون } فبين سفيان أن هذا من المعاريض المباحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية