الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
الوجه الرابع والثلاثون : أنه ممنوع من الحكم بعلمه ; لئلا يكون ذلك ذريعة إلى حكمه بالباطل ويقول : حكمت بعلمي .

الوجه الخامس والثلاثون : أن الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة .

الوجه السادس والثلاثون : أن الله تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به ومن أنزل عليه .

الوجه السابع والثلاثون : أن الله تعالى أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع وليس عليها وازع طبعي ، والحدود عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا ، ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له ; فمن لقيه تائبا توبة نصوحا لم يعذبه مما تاب منه ، وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحا قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه الحد في أصح قولي العلماء ، فإذا رفع إلى الإمام لم تسقط توبته عنه الحد لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله ; إذ لا يعجز كل من [ ص: 116 ] وجب عليه الحد أن يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة وإن تاب توبة نصوحا سدا لذريعة السكوت بالكلية .

الوجه الثامن والثلاثون : أن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى ، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف ، مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن ، وذلك سدا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع ، وطلبا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة ، وهذا من أعظم مقاصد الشرع ، وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق ، حتى في تسوية الصف في الصلاة ; لئلا تختلف القلوب ، وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر .

الوجه التاسع والثلاثون : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم ، وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم وليلتها بالقيام ، سدا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان بما لم يخصه به ; ففي ذلك وقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب .

الوجه الأربعون : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم ، فسدت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين .

الوجه الحادي والأربعون : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ناجية بن كعب الأسلمي وقد أرسل معه هدي إذا عطب منه شيء دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله التي قلده بها في دمه ويخلي بينه وبين الناس ، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته } ، قالوا : وما ذاك إلا لأنه لو جاز أن يأكل منه أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعاه ذلك إلى أن يقصر في علفها وحفظها لحصول غرضه من عطبها دون المحل كحصوله بعد بلوغ المحل من أكله هو ورفقته وإهدائهم إلى أصحابهم ، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى حفظها حتى تبلغ محلها وأحسم لمادة هذا الفساد ، وهذا من ألطف أنواع سد الذرائع .

الوجه الثاني والأربعون : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يشهد على اللقطة ، وقد علم أنه أمين ، وما ذاك إلا سد لذريعة الطمع والكتمان ، فإذا بادر وأشهد كان أحسم لمادة الطمع والكتمان ، وهذا أيضا من ألطف أنواعها .

الوجه الثالث والأربعون : أنه صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد } وذم الخطيب الذي قال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن عصاهما فقد غوى ، سدا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ ، وحسما لمادة الشرك حتى في اللفظ ، ولهذا قال [ ص: 117 ] للذي قال له : { ما شاء الله وشئت : أجعلتني لله ندا } ؟ فحسم مادة الشرك وسد الذريعة إليه في اللفظ كما سدها في الفعل والقصد ، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها [ وأعمها ]

الوجه الرابع والأربعون : أنه صلى الله عليه وسلم أمر المأمومين أن يصلوا قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا وقد تواتر عنه ذلك ، ولم يجئ عنه ما ينسخه ، وما ذاك إلا سدا لذريعة مشابهة الكفار حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود كما علله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، وهذا التعليل منه يبطل قول من قال : إنه منسوخ ، مع أن ذلك دعوى لا دليل عليها .

الوجه الخامس والأربعون : أنه صلى الله عليه وسلم أمر المصلي بالليل إذا نعس أن يذهب فليرقد ، وقال : لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ، فأمره بالنوم لئلا تكون صلاته في تلك الحال ذريعة إلى سبه لنفسه ، وهو لا يشعر لغلبة النوم .

الوجه السادس والأربعون : أن الشارع صلوات الله عليه نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يستام على سوم أخيه أو يبيع على بيع أخيه ، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى التباغض والتعادي ; فقياس هذا أنه لا يستأجر على إجارته ولا يخطب ولاية ولا منصبا على خطبته ، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه .

الوجه السابع والأربعون : أنه نهى عن البول في الجحر ، وما ذاك إلا لأنه قد يكون ذريعة إلى خروج حيوان يؤذيه ، وقد يكون من مساكن الجن فيؤذيهم بالبول ، فربما آذوه .

الوجه الثامن والأربعون : أنه نهى عن البراز في قارعة الطريق والظل والموارد ; لأنه ذريعة لاستجلاب اللعن كما علل به صلى الله عليه وسلم بقوله : { اتقوا الملاعن الثلاث } وفي لفظ : { اتقوا اللاعنين ، قالوا : وما اللاعنان يا رسول الله ؟ قال : الذي يتخلى في طريق الناس ، وفي ظلهم } .

الوجه التاسع والأربعون : أنه نهاهم إذا أقيمت الصلاة أن يقوموا حتى يروه قد خرج ; لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قيامهم لغير الله ، ولو كانوا إنما يقصدون القيام للصلاة ، لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة ولا مصلحة فيها فنهوا عنه .

الوجه الخمسون : أنه نهى أن توصل صلاة بصلاة الجمعة حتى يتكلم أو يخرج لئلا يتخذ ذريعة إلى تغيير الفرض ، وأن يزاد فيه ما ليس منه .

قال السائب بن يزيد : صليت الجمعة في المقصورة ، فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت ، فلما دخل معاوية أرسل إلي ، فقال : لا تعد لما فعلت ، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ألا توصل الصلاة حتى يتكلم أو يخرج [ ص: 118 ] الوجه الحادي والخمسون : أنه أمر من صلى في رحله ثم جاء إلى المسجد أن يصلي مع الإمام وتكون له نافلة ; لئلا يتخذ قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به ، وأنه ليس من المصلين .

الوجه الثاني والخمسون : أنه نهى أن يسمر بعد العشاء الآخرة إلا لمصل أو مسافر ، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها ، وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعة إلى تفويتها ، والسمر بعدها ذريعة إلى تفويت قيام الليل ، فإن عارضه مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره .

الوجه الثالث والخمسون : أنه نهى النساء إذا صلين مع الرجال أن يرفعن رءوسهن قبل الرجال ; لئلا يكون ذريعة منهن إلى رؤية عورات الرجال من وراء الأزر كما جاء التعليل بذلك في الحديث

الوجه الرابع والخمسون : أنه نهى الرجل أن يتخطى المسجد الذي يليه إلى غيره ، كما رواه بقية عن المجاشع بن عمرو عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ، ولا يتخطاه إلى غيره } وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه وإيحاش صدر الإمام وإن كان الإمام لا يتم الصلاة أو يرمى ببدعة أو يلعن بفجور فلا بأس بتخطيه إلى غيره .

الوجه الخامس والخمسون : أنه نهى الرجل بعد الأذان أن يخرج من المسجد حتى يصلي ; لئلا يكون خروجه ذريعة إلى اشتغاله عن الصلاة جماعة كما قال عمار لرجل رآه قد خرج بعد الأذان : " أما هذا فقد عصى أبا القاسم " .

الوجه السادس والخمسون : أنه نهى عن الاحتباء يوم الجمعة كما رواه أحمد في مسنده من حديث سهل بن معاذ عن أبيه : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة } وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى النوم .

الوجه السابع والخمسون : أنه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورا ، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوفهم إليها ، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها ; فأمرها أن تخرج تفلة ، وأن لا تتطيب ، وأن تقف خلف الرجال ، وأن لا تسبح في الصلاة إذا نابها شيء ، بل تصفق ببطن كفها على ظهر الأخرى ، كل ذلك سدا للذريعة وحماية عن المفسدة .

الوجه الثامن والخمسون : أنه نهى أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر [ ص: 119 ] إليها ولا يخفى أن ذلك سد للذريعة وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه ، وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية .

الوجه التاسع والخمسون : أنه { نهى عن الجلوس بالطرقات ، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر إلى المحرم ، فلما أخبروه أنه لا بد لهم من ذلك ، قال أعطوا الطريق حقه ، قالوا : وما حقه ؟ قال : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام }

الوجه الستون : أنه نهى أن يبيت الرجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا رحم محرم ، وما ذاك إلا لأن المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى المحرم .

الوجه الحادي والستون : أنه نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى تنقل عن مكانها ، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها ، فيغره الطمع ، وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع . وأكد هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يضمن ، وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع .

الوجه الثاني والستون : أنه نهى عن بيعتين في بيعة ، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر ، وهو الذي لعاقدة أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الثالث ، وذلك سد لذريعة الربا ; فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها منه بمائتين حالة فقد باع بيعتين في بيعة ، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا ، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما ، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا ، وأبعد كل البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة ، وليس هاهنا ربا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد ; فإنه خيره بين أي الثمنين شاء ، وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام ، وأيضا فإنه فرق بين عقدين كل منهما ذريعة ظاهرة جدا إلى الربا - وهما السلف والبيع ، والشرطان في البيع - وهذان العقدان بينهما من النسب والإخاء والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضي الجمع بينهما في التحريم ، فصلوات الله وسلامه على من كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور .

الوجه الثالث والستون : أنه أمر أن يفرق بين الأولاد في المضاجع ، وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد ; لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول ، والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر ، وهذا أيضا من ألطف سد الذرائع .

الوجه الرابع والستون : أنه نهى أن يقول الرجل : خبثت نفسي ، ولكن ليقل ، لقست [ ص: 120 ] نفسي ، سدا لذريعة اعتياد اللسان للكلام الفاحش ، وسدا لذريعة اتصاف النفس بمعنى هذا اللفظ ; فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى ، ولهذا قل من تجده يعتاد لفظا إلا ومعناه غالب عليه ، فسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذريعة الخبث لفظا ومعنى ، وهذا أيضا ألطف الباب .

الوجه الخامس والستون : أنه نهى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته : عبدي وأمتي ، ولكن يقول : فتاي وفتاتي ، ونهى أن يقول لغلامه : وضئ ربك ، أطعم ربك ، سدا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى ، وإن كان الرب هاهنا هو المالك كرب الدار ورب الإبل ; فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة ، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد ، حماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك .

الوجه السادس والستون : أنه نهى المرأة أن تسافر بغير محرم ، وما ذلك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية