فصل 
[ حقيقة الهازل وحكم عقوده    ] 
وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته ، بل على وجه للعب ونقيضه الجاد فاعل من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل ، وهو مأخوذ من " جد فلان " إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ ، والهزل : من هزل إذا ضعف وضؤل ، نزل الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغنى ، والذي لم يرد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك ; إذ قوام الكلام بمعناه ، وقوام الرجل بحظه وماله ، وقد جاء فيه حديث  أبي هريرة  المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة   } رواه أهل السنن وحسنه الترمذي    . 
وفي مراسيل الحسن  عن النبي صلى الله عليه وسلم { من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز   } . وقال  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه : أربع جائزات إذا تكلم بهن : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح ، والنذر . وقال أمير المؤمنين  علي  كرم الله وجهه : ثلاث لا لعب فيهم : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح . 
وقال  أبو الدرداء    : ثلاث اللعب فيهن كالجد : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح . 
وقال  ابن مسعود    : النكاح جده ولعبه سواء ، ذكر ذلك  أبو حفص العكبري    . 
فصل 
[ أقوال الفقهاء والحكمة في نفاذ حكم العقود على الهازل ] 
فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور ، وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص ، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين ، وهو قول الجمهور ، وحكاه أبو حفص  أيضا عن  أحمد  ، وهو قول أصحابه ، وقول طائفة من أصحاب  الشافعي  ، وذكر بعضهم أن  الشافعي  نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه ، ومذهب  مالك  الذي رواه ابن القاسم  عنه وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم ، بخلاف البيع ، وروى عنه علي بن زياد  أن نكاح الهازل لا يجوز . 
قال بعض أصحابه : فإن قام دليل الهزل لم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق ، ولا شيء عليه من الصداق ، وأما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي  أبي يعلى  وأكثر أصحابه ، وهو قول الحنفية والمالكية . وقال  أبو الخطاب  في  [ ص: 101 ] انتصاره : يصح بيعه كطلاقه ، وخرجها بعض الشافعية على وجهين ، ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة . 
والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غير ملزم لحكمه ، وترتيب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد ، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى ; لأن ذلك لا يقف على اختياره ، وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه ، وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك للمعنى لتلازمهما ، إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال ; فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول وموجبه ، ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداء ، والمحلل قصد إعادتها إلى المطلق ، وذلك مناف لقصده موجب السبب ، وأما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه فترتب عليه أثره . 
فإن قيل : هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين فإنه لا يترتب عليه حكمه . 
قيل : اللاغي لم يقصد السب ، وإنما جرى على لسانه من غير قصده ; فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله ، وأيضا فالهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل ، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر ، ومن فرق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال : الحديث والآثار تدل على أن من العقود ما يكون جده وهزله سواء ، ومنها ما لا يكون كذلك ، وإلا لقال العقود كلها أو الكلام كله جده وهزله سواء ، وأما من جهة المعنى فإن النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حق الله تعالى . 
أما العتق فظاهر ، وأما الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع ، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وإن لم تطلبها الزوجة ، وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما وحرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة ; ولهذا لا يستباح إلا بالمهر ، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد - مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام - أن لا يرتب عليها موجباتها ، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هزل بها كما صرح به القرآن ; فإن الكلام المتضمن لحق الله لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق ; إذ ليس للعبد أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته ولا يتلاعب بحدوده . 
وفي حديث أبي موسى    { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته   } وذلك في الهازلين ، يعني - والله أعلم - يقولونها لعبا غير ملتزمين لأحكامها وحكمها لازم لهم ، وهذا بخلاف البيع وبابه ; فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي ، ولهذا يملك بذله بعوض وغير عوض ، والإنسان قد يلعب مع الإنسان وينبسط معه ، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد ; لأن المزاح معه جائز .  [ ص: 102 ] وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز ، فيكون جد القول وهزله سواء ، بخلاف جانب العباد ، ألا ترى أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح مع الصحابة ويباسطهم   } . 
وأما مع ربه تعالى فيجد كل الجد ، ولهذا { قال للأعرابي يمازحه : من يشتري مني العبد ؟ فقال : تجدني رخيصا يا رسول الله ؟ فقال : بل أنت عند الله غال   } وقصد صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ، والصيغة صيغة استفهام ، وهو صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا ، ولو أن رجلا قال : " من يتزوج أمي أو أختي " لكان من أقبح الكلام ، وقد كان  عمر  رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته أخته ، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود    { أن رجلا قال لامرأته : يا أخته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أختك هي ؟ إنما جعل إبراهيم  ذلك حاجة لا مزاحا   } . 
ومما يوضحه أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه ، بل هو مقدم على نقلها ، ولهذا يستحب عقده في المساجد ، وينهى عن البيع فيها ، ومن يشترط له لفظا بالعربية راعى فيه ذلك إلحاقا له بالأذكار المشروعة ، ومثل هذا لا يجوز الهزل به ، فإذا تكلم به رتب الشارع عليه حكمه وإن لم يقصده ، بحكم ولاية الشارع على العبد ، فالمكلف قصد السبب ، والشارع قصد الحكم ، فصارا مقصودين كلاهما . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					