( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه     ) ، طول المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدة أوراق ، وملخصها وأشهرها : أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي  حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمانية معه :  سعد بن أبي وقاص  ،  وعكاشة بن محصن  ، وعقبة بن غزوان  ،  وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة  ،  وسهيل بن بيضاء  ،  وعامر بن ربيعة  ، ووافد بن عبد الله  ، وخال بن بكير  ، وأميرهم عبد الله  يترصدون عير قريش  ببطن نخلة  ، فوصلوها ، ومرت العير ، فيها عمرو بن الحضرمي  ، والحكم بن كيسان  ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة  ، ونوفل بن عبد الله  ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم ، وهو أول يوم من رجب ، فرمى وافد  عمرا  بسهم فقتله ، وكان أول قتيل من المشركين ، وأسروا الحكم  ، وعثمان  ، وكانا أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل  ، وقدموا بالعير المدينة  ، فقالت قريش    : استحل محمد  الشهر الحرام ، وأكثر الناس في ذلك ، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير ، وقال أصحاب السرية : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ؛ فنزلت الآية ؛ فخمس العير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أول خمس في الإسلام ، فوجهت قريش  في فداء الأسيرين ، فقيل : حتى يقدم سعد  وعتبة  ، وكانا قد أضلا بعيرا لهما قبل لقاء العير   [ ص: 145 ] فخرجا في طلبه ، فقدما ، وفودي الأسيران ، فأما الحكم  فأسلم وأقام ب المدينة  وقتل شهيدا ببئر معونة  ، وأما عثمان  فمات ب مكة  كافرا ، وأما نوفل  فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين ، فوقع بالخندق مع فرسه ، فتحطما وقتلهما الله . وفي هذه القصة اختلاف في مواضع ، وقد لخص السجاوندي  هذا السبب فقال : نزلت في أول سرية الإسلام ، أميرهم عبد الله بن جحش  ، أغاروا على عير ل قريش  قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي  آخر يوم من جمادى الآخرة ، فاشتبه بأول رجب ، فعيرهم أهل مكة  باستحلاله . وقيل : نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح . وقيل : نزلت في قتل  عمرو بن أمية الضمري  رجلين من كلاب كانا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمرو  لا يعلم بذلك ، وكان في أول يوم من رجب ، فقالت قريش    : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخص بزمان دون زمان ، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال ، فبين حكم القتال في الشهر الحرام . وسيأتي معنى قوله ( قل قتال فيه كبير    ) ، كما جاء : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم    ) ، وجاء بعده : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام    ) ، ذلك التخصيص في المكان ، وهذا في الزمان . وضمير الفاعل في يسألونك ، قيل : يعود على المشركين ، سألوا تعييبا لهتك حرمة الشهداء ، وقصدا للفتك ، وقيل : يعود على المؤمنين ، سألوا استعظاما لما صدر من ابن جحش  واستيضاحا للحكم . والشهر الحرام هنا هو رجب بلا خلاف ، هكذا قالوا ، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس ، فيراد به الأشهر الحرام وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . وسميت حرما لتحريم القتال فيها ، وتقدم شيء من هذا في قوله : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام    ) . وقرأ الجمهور " قتال فيه " بالكسر ، وهو بدل من الشهر ، بدل اشتمال ، وقال  الكسائي    : هو مخفوض على التكرير ، وهو معنى قول الفراء  ؛ لأنه قال : مخفوض بعن مضمرة ، ولا يجعل هذا خلافا كما يجعله بعضهم ؛ لأن قول البصريين  إن البدل على نية تكرار العامل هو قول  الكسائي   والفراء  ، لا فرق بين هذه الأقوال ، هي كلها ترجع لمعنى واحد . 
وقال أبو عبيدة    : " قتال فيه " خفض على الجوار ، قال ابن عطية    : هذا خطأ . انتهى . فإن كان أبو عبيدة  عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة ، فهو كما قال ابن عطية    : وجه الخطأ فيه هو أن يكون تابعا لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى ، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعا من حيث المعنى ، وهنا لم يتقدم لا مرفوع ولا منصوب ، فيكون " قتال " تابعا له ، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار ، وإن كان أبو عبيدة  عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض ؛ فخفضه بكونه جاور مخفوضا ، أي : صار تابعا له ، ولا نعني به المصطلح عليه ؛ جاز ذلك ولم يكن خطأ ، وكان موافقا لقول الجمهور ، إلا أنه أغمض في العبارة ، وألبس في المصطلح . 
وقرأ  ابن عباس  ، والربيع  ،  والأعمش    : " عن قتال فيه " بإظهار " عن " ، وهكذا هو في مصحف عبد الله    . وقرئ شاذا : " قتال فيه " بالرفع ، وقرأ عكرمة    : " قتل فيه قل قتل فيه " بغير ألف فيهما . ووجه الرفع في قراءة " قتال فيه " أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ ، وسوغ جواز الابتداء فيه ، وهو نكرة ، لنية همزة الاستفهام ، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من " الشهر الحرام " ؛ لأن " سأل " قد أخذ مفعوليه ، فلا يكون في موضع المفعول ، وإن كانت هي محط السؤال ، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره : أجائز قتال فيه ؟ قيل : ونظير هذا ؛ لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام ، إنما سألوا : أيجوز القتال في الشهر الحرام ؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					