الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ النزول أيضا خمسة أقسام ] :

( وضده ) ; أي : وضد العلو ( النزول ) ، بحيث يتنوع أقسامه ( كالأنواع ) السابقة للعلو ، فما من قسم من أقسامه الخمسة إلا وضده قسم من أقسام النزول ، فهو إذا خمسة أقسام ، وتفصيلها يدرك من تفصيل أقسام العلو على نحو ما تقدم .

[ ص: 358 ] وأنزل ما في الصحيحين مما وقفت عليه ما بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه ثمانية ، وذلك في غير ما حديث ، كحديث توبة كعب في تفسير ( براءة ) .

وحديث بعث أبي بكر لأبي هريرة في الحج في ( براءة ) أيضا .

وحديث : ( من أعتق رقبة ) في الكفارة تلو الأيمان والنذور في ( باب قول الله تعالى : أو تحرير رقبة ) .

وحديث أنه صلى الله عليه وسلم طرق عليا وفاطمة في ( المشيئة والإرادة من التوحيد ) ، وأربعتها في ( البخاري ) .

وحديث النعمان : ( الحلال بين ) .

وحديث عدي بن كعب : ( لا يحتكر إلا خاطئ ) ، وهما في ( مسلم ) ، بل وقفت للنسائي على عشاريين ، شاركه الترمذي في أحدهما سلفا في المصافحة والمساواة .

[ النزول ليس بمذموم في كل وقت ] :

( وحيث ذم ) النزول ; كقول علي بن المديني وأبي عمرو المستملي كما في ( الجامع ) للخطيب وغيره : إنه شؤم ، وقول ابن معين كما في ( الجامع ) أيضا : إنه قرحة في الوجه .

( فهو ما لم ) تدع ضرورة لسماعه ، كقصد التبحر في جمع الطرق ، أو غرابة اسم راويه عند [ ص: 359 ] من يقصد جمع شيوخه على حروف المعجم ، أو عدم وجود غيره في بلد عظيم لمن قصد الاعتناء بالأحاديث البلدانيات ، كما اتفق للحافظ الخطيب أنه كتب ببيت المقدس عن شاب اسمه وفي ، روى عن بعض تلامذته ممن كان إذ ذاك في قيد الحياة لغرابة اسمه .

واقتفيت أثره في ذلك حيث سمعت على امرأة اسمها لمياء ، مع نزول إسنادها ، أو ما لم ( يجبر ) النزول بصفة مرجحة كزيادة الثقة في رجاله على العالي ، أو كونه أحفظ أو أضبط أو أفقه ، أو كونه متصلا بالسماع ، وفي العالي حضور أو إجازة أو مناولة أو تساهل من بعض رواته في الحمل ، أو نحو ذلك ; فإن العدول حينئذ إلى النزول ليس بمذموم ولا مفضول .

ونحوه قول ابن الصلاح : وما جاء في ذم النزول مخصوص ببعض النزول ; فإن النزول إذا تعين دون العلو طريقا إلى فائدة راجحة على فائدة العلو كان مختارا غير مرذول . وقال بعضهم : وفيه نظر ; لأنه - والحالة هذه - لا يسمى نازلا مطلقا ، وهو ظاهر .

وقد روينا من جهة عبد الله بن هاشم الطوسي وعلي بن خشرم أنهما قالا : كنا عند وكيع فقال لنا : أي الإسنادين أحب إليكم ، الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود ، أو سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود ؟ فقلنا : الأعمش عن أبي وائل ، فقال : يا سبحان الله ، الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ ، وسفيان فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه ، وحديث يتداوله الفقهاء خير [ ص: 360 ] من أن يتداوله الشيوخ .

وقد فصل شيخنا تفصيلا حسنا ، وهو : إن النظر إن كان للسند فشيوخ ، وإن كان للمتن فالفقهاء ، وإذا رجح وكيع الإسناد الثاني مع نزوله بدرجتين لما امتاز به رواته من الفقه المنضم لمعرفة الحديث على الإسناد الأول مع كونه صحيحا ، فكيف بغيره مما لا يصح ؟ ! .

( والصحة ) بلا شك مع النزول وهي ( العلو ) المعنوي ( عند النظر ) والتحقيق ، والعالي عند فقد الضبط والإتقان علو صوري ، فكيف عند فقد التوثيق ؟ ! وإليه أشار السلفي حيث قال : الأصل الأخذ عن العلماء ، فنزولهم أولى من علو الجهلة على مذهب المحققين من النقلة . والنازل حينئذ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق .

وقال إبراهيم بن الجنيد : قلت لابن معين : أيما أحب إليك : أكتب جامع سفيان الثوري عن فلان أو فلان ، يعني عنه ، أو عن رجل عن المعافى بن عمران ، يعني عنه ؟ فقال : عن رجل عن رجل حتى عد خمسة أو ستة عن المعافى أحب إلي .

وروى السلفي ، وكذا الخطيب من طريق ابن معين ، قال : الحديث بنزول [ ص: 361 ] عن ثبت خير من علو غير ثبت . قال السلفي : وأنشد محمد بن عبد الله بن زفر في معناه :


علم النزول اكتبوه فهو ينفعكم وترككم ذاكم ضرب من العنت     إن النزول إذا ما كان عن ثبت
أعلى لكم من علو غير ذي ثبت

وأسندهما الخطيب في جامعه إلى أبي بكر بن الأنباري أنه أنشدهما ، فالله أعلم .

وكذا أسند عن محمد بن عبيد الله العامري الأديب من قوله :



لكتابي عن رجال أرتضيهم بنزول     هو خير من كتابي بعلو عن طبول

وللحافظ أبي الحسن بن المفضل المقدسي :


إن الرواية بالنزول عن الثقات الأعدلينا     خير من العالي عن الجهال والمستضعفينا

.

وللخطيب من جهة علي بن معبد قال : سمعت عبيد الله بن عمرو ، وذكر له قرب الإسناد ، فقال : حديث بعيد الإسناد صحيح خير من حديث قريب الإسناد سقيم ، أو قال : ضعيف .

وعن ابن المبارك قال : ليس جودة الحديث قرب الإسناد ، جودة الحديث صحة الرجال . ونحوهم ما حكاه أبو سعد السمعاني عن والده عن أبي القاسم عبد الله بن علي عن أخيه الوزير نظام الملك الحسن بن علي أنه قال : مذهبي في علوم الحديث غير مذهب أصحابنا ، إنهم يذهبون إلى أن الحديث العالي ما قل رواته ، وعندي أن الحديث العالي ما صح [ ص: 362 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بلغت رواته مائة .

وكذا قال ابن برهان الأصولي في كتاب ( الأوسط ) : علو الإسناد يعظمه أصحاب الحديث ، ويشددون في البحث عنه . قال : وعلو الحديث عندهم ليس عبارة عن قلة الرجال ، وإنما هو عبارة عن الصحة ، ولهذا ينزلون أحيانا طلبا للصحة ، فإذا وجدوا حديثا له طريقان ; أحدهما بخمسة وسائط مثلا ، والأخرى بسبعة ، يرجحون النازل على العالي طلبا للصحة . وقد نظم هذا المعنى السلفي فقال :


ليس حسن الحديث قرب رجال     عند أرباب علمه النقاد بل علو الحديث بين أولي الحفـ
ـظ والإتقان صحة الإسناد وإذا ما تجمعا في حديث     فاغتنمه فذاك أقصى المراد

قال ابن الصلاح : فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث ، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب . ونحوه قول ابن كثير عقب القول بأن العالي ما صح سنده وإن كثرت رجاله : هذا اصطلاح خاص ، وماذا يقول قائله إذا صح الإسنادان ، لكن هذا أقرب رجالا ؟ ! .

قلت : يقول : إنه بالوصف بالعلو أولى ; إذ ليس في الكلام ما يخرجه .

تتمة : لو جمع بين سندين أحدهما أعلى فبأيهما يبدأ ؟ فجمهور المتأخرين يبدأ بالأنزل ; ليكون لإيراد الأعلى بعده فرحة ، وأكثر المتقدمين بالأعلى لشرفه .

ومن أمثلته في ( البخاري ) قوله : حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ح ، وحدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا محمد بن فليح ، حدثنا أبي .

وقوله : حدثنا عبدان ، أخبرني أبي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ح ، وحدثني أحمد بن عثمان ، حدثنا شريح بن مسلمة ، حدثنا [ ص: 363 ] إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق .

وفي ( مسلم ) : حدثنا ابن نمير والأشج ، كلاهما عن وكيع ، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنا عيسى بن يونس ، كلاهما عن الأعمش ، وحدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، وأبو بكر بن نافع ، كلاهما عن ابن مهدي ، عن الثوري ، عن الأعمش .

ولا يسلكان خلافه إلا لنكتة أو ضرورة . ومنه قول البخاري : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان الثوري ، فذكر حديثا ، ثم قال : حدثنا أبو نعيم عن سفيان نحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية