الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ المذهب الراجح في إصلاح اللحن ] :

( ومذهب المحصلين ) والعلماء من المحدثين ، كما صرح به الخطيب في ( جامعه ) ، ومنهم همام ، وابن المبارك ، وابن [ ص: 169 ] عيينة ، والنضر بن شميل ، وأبو عبيد ، وعفان ، وابن المديني ، وابن راهويه ، والحسن بن علي الحلواني ، والحسن بن محمد الزعفراني ، وغيرهم ممن سأحكيه عنهم وغيرهم ، وصوبه من المتأخرين ابن كثير ، أنه ( يصلح ) فيغير ( ويقرأ الصواب ) من أول وهلة . قال الأوزاعي : أعربوا الحديث ، فإن القوم كانوا عربا .

وعنه أيضا : لا بأس بإصلاح اللحن في الحديث . وممن حكي ذلك عنه الشعبي ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، حيث سئلوا عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن ; أيرويه السامع له كذلك أم يعربه ؟ فقالوا : بل يعربه . ذكره ابن أبي خيثمة في كتاب ( الإعراب ) له .

وعن الأعمش قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحن ، فقوموه . وروينا في " جزء عبد الله بن أحمد الخرقي " عن علي بن الحسن قال : قلت لابن المبارك : يكون في الحديث لحن ، نقومه ؟ قال : نعم ، القوم لم يكونوا يلحنون ، اللحن منا . وعن عباس الدوري أنه قيل لابن معين : ما تقول في الرجل يقوم للرجل حديثه ، يعني ينزع منه اللحن ، فقال : لا بأس به .

وقال أبو داود : كان أحمد بن صالح يقوم كل لحن في الحديث . قال الخطيب : وهذا إجماع منهم على أن إصلاح اللحن جائز .

وقال في ( الجامع ) : إن الذي نذهب إليه رواية الحديث على الصواب ، وترك اللحن فيه وإن كان قد سمع ملحونا ; لأن من اللحن ما يحيل الأحكام ، ويصير الحرام حلالا ، والحلال حراما ، فلا يلزم اتباع السماع فيما هذه سبيله . ومقتضاه أنه لا فرق في ذلك بين المغير للمعنى وغيره .

( وهو ) أي الإصلاح ( الأرجح في اللحن ) الذي ( لا يختلف المعنى به ) وفي أمثاله ، أما الذي يختلف المعنى به فيصلح عند المحصلين جزما . وعبارة بعض المتأخرين في المغير للمعنى : لا تجوز الرواية له اتفاقا . قال عبد الله بن [ ص: 170 ] أحمد : ما زال القلم في يد أبي حتى مات ، وكان يقول : إذا لم يتصرف الشيء في معنى فلا بأس أن يصلح . أو كما قال .

واحتج ابن المنير لهذا المذهب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث : ( نضر الله ) : ( فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) . يعني لما فيه من الإشارة إلى عدم تقليد الراوي في كل ما يجيء به .

وكذا احتج له ابن فارس بقوله في الحديث المشار إليه : ( فبلغها كما سمع ) لكون المراد به : كما سمع من صحة المعنى واستقامته من غير زيادة ولا نقص .

وقد قال بعضهم كما روينا في ( جامع الخطيب ) : إذا كتب لحان ، وعن اللحان آخر مثله .

وعن الثاني ثالث مثله صار الحديث بالفارسية . ونحوه ما قيل في ترك المقابلة كما تقدم .

قال ابن الصلاح : والقول به ، أي بالرواية على الصواب مع الإصلاح ، لازم على مذهب الأكثرين في تجويز الرواية بالمعنى . فقوله : لازم . يحتمل الوجوب ; لأنه إذا جاز التغيير في صواب اللفظ فلا يمتنع أن يجب في خطئه ، ولكن الظاهر أنه إنما أراد مجرد إلزامهم القول به لكونه هنا آكد ، لا سيما وقد صرح الخطيب بالجواز فقال : وقد أجاز بعض العلماء ألا يذكر الخطأ الحاصل في الكتاب إذا كان متيقنا ، بل يروى على الصواب .

بل كلامه في ( الكفاية ) قد يشير إلى الاتفاق عليها ، فإنه قال : إذا كان اللحن يحيل المعنى فلا بد من تغييره ، وكثير من الرواة يحرفون الكلام عن وجهه ، ويزيلون الخطاب عن موضعه ، وليس يلزم من أخذ عمن هذه سبيله أن يحكي لفظه إذا عرف وجه [ ص: 171 ] الصواب ، وخاصة إذا كان الحديث معروفا ، ولفظ العرب به ظاهرا معلوما ، ألا ترى أن المحدث لو قال : لا يؤم المسافر المقيم . بنصب المسافر ورفع المقيم ، كان قد أحال المعنى ؟ فلا يلزم اتباع لفظه .

ونحوه قول عبد الله بن أحمد : كان إذا مر بأبي لحن فاحش غيره ، وإن كان سهلا تركه وقال : كذا قال الشيخ .

وكذا يشبه أن يكون محل الخلاف فيما لم يكن مجمعا على الخطأ فيه ، إما بالاستقراء التام للسان العرب ، أو بوضوح الأمر فيه ، وقد صرح ابن حزم في ( الإحكام ) له فيما يكون كذلك بالتحريم ، فإنه قال : إن الواقع في الرواية إن كان لا وجه له في الكلام ألبتة حرم عليه تأديته ملحونا ، لتيقننا أنه صلى الله عليه وسلم لم يلحن قط ، وإن جاز ولو على لغة بعض العرب أداه كما سمعه .

ونحوه قول أبي عمران الفسوي فيما حكاه عنه القابسي : إن كان مما لا يوجد في كلام أحد من العرب قرئ على الصواب وأصلح ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن ، وإن كان مما يقوله بعض العرب ولم يكن في لغة قريش ، فلا ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكلم الناس بلغتهم . يعني كقوله على لغة الأشعريين في قلب اللام ميما : ( ليس من امبر امصيام في امسفر ) .

ومن ثم أشار ابن فارس إلى التروي في الحكم على الرواية بالخطأ ، والبحث الشديد ، فإن اللغة واسعة ، بل قال ابن الصلاح : إن كثيرا ما نرى ما يتوهمه كثير من أهل العلم خطأ ، وربما غيروه ، صوابا ذا وجه صحيح ، وإن خفي واستغرب ، لا سيما فيما يعدونه خطأ من جهة العربية .

وذلك لكثرة لغات العرب [ ص: 172 ] وتشعبها ، هذا أبو الوليد الوقشي مع تقدمه في اللغة وكثرة مطالعته وافتنانه وثقوب فهمه وحدة ذهنه ، كان يبادر إلى الإصلاح ، ثم يتبين الصواب فيما كان في الرواية ، كما قدمته في التصحيح والتمريض ، وكذلك غيره ممن سلك مسلكه ، لا سيما وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام : لأهل العربية لغة ، ولأهل الحديث لغة ، ولغة أهل العربية أقيس ، ولا نجد بدا من اتباع لغة أهل الحديث من أجل السماع .

ورئي بعض أهل الحديث في المنام وكأنه قد مر من شفته أو لسانه شيء فقيل له في ذلك ، فقال : لفظة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرتها برأيي ، ففعل بي هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية