الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وقائل هذا القول لو قال رجل : زنأت في الجبل حد له ، وإن كان معروفا عند العرب أنه صعدت في الجبل ( قال الشافعي ) - رحمه الله تعالى - : يحلف ما أراد إلا الرقي في الجبل ولا حد ، فإن لم يحلف حد إذا حلف المقذوف لقد أراد القذف " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا مما خالف فيه أبو حنيفة فقال : إذا قال لها زنأت في الجبل كان قذفا صريحا يوجب حدا .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : زنأت في الجبل هو الترقي فيه فلا يكون قذفا إن لم يرده .

                                                                                                                                            وهو قول أبي يوسف ومحمد .

                                                                                                                                            وقال أبو الطيب بن أبي سلمة : إن كان قائل ذلك من أهل العربية لم يكن قذفا ، وإن كان ممن لا يعرفها كان قذفا ، فأما أبو حنيفة فاستدل على أنه قذف : بأن لفظ الزنا يقصر تارة ويمد أخرى ، فيقال : زنأت . وزنيت ، قال الشاعر :


                                                                                                                                            كانت فريضة ما تقول كما كان الزنا فريضة الرجم



                                                                                                                                            وإذا استوى في القذف : زنأت وزنيت ، لم تكن إضافته إلى الجبل مخرجا له من القذف ، كما لو قال له : زنيت في الجبل ، كان قذفا فلم تخرجه الإضافة إلى الجبل من أن يكون قذفا ، أما أبو الطيب بن أبي سلمة فإنه فرق بين النحوي والعامي ، فإن النحوي لوقوفه على معاني الألفاظ يفرق بين قوله : زنأت في الجبل فيعلم أنه الترقي فيه ، وبين قوله : زنيت في الجبل فيعلم أنه إتيان الفاحشة فيه ، والعامي لا يفرق بينهما ، فكان من العامي قذفا لجهله بالفرق بينهما ، ولم يكن من النحوي قذفا لعلمه بالفرق بينهما .

                                                                                                                                            كما إذا قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار ، يفرق في حق النحوي بين كسر إن وفتحها ، فإن فتحها فقال : أنت طالق أن دخلت الدار كان خبرا ، والطلاق واقع ؛ لأن تقديره : أنت طالق لأنك دخلت الدار ، وإن كسرها فقال : أنت طالق إن دخلت الدار ، كانت شرطا ، لا تطلق حتى تدخل الدار ؛ لأن تقديره : أنت طالق إذا دخلت الدار .

                                                                                                                                            [ ص: 109 ] والدليل على أنه لا يكون قذفا إذا لم تر أن الأحكام تعتبر بحقيقة اللفظ دون مجازه من العالم والجاهل إذا تجرد عن نية وإرادة ، كصريح الطلاق وكنايته ، وحقيقة قوله : زنأت في الجبل ، هو الصعود إليه والترقي فيه ، يقال : زنأ يزنأ وزنوا إذ صعد فيه ، وزنى يزني زنا ، إذا فجر ، يمد ويقصر ، والقصر أكثر .

                                                                                                                                            والفرق بينهما في حقيقة اللسان وعرف الاستعمال مشهور ، حكي أن امرأة من العرب كانت ترقص ابنا وهي تقول :


                                                                                                                                            أشبه أبا أمك أو أشبه جمل     ولا تكونن كهلوف وكل
                                                                                                                                            يصبح في مضجعه قد انجدل     وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل



                                                                                                                                            قولها : " أشبه أبا أمك " يعني أباها الذي هو جده لأمه .

                                                                                                                                            وأشبه جمل هو نجيب من قومه ، ولعله أبوه ، ومعناه أشبه هذا أو هذا ، ولا تكونن كهلوف .

                                                                                                                                            الهلوف : الرجل الجافي العظيم .

                                                                                                                                            والوكل : الضعيف ، ومعناه : لا تكونن رجلا ثقيل الجسم مسترخيا .

                                                                                                                                            يصبح في مضجعه قد انجدل ، يعني وقع على الأرض ، لأن الأرض تسمى الجدالة .

                                                                                                                                            وارق إلى الخيرات : معناه ، واصعد إليها .

                                                                                                                                            زنأ في الجبل : أي كصعودك فيه ومعناه أنك تعلو بصعودك إلى الخيرات كما تعلو بصعودك في الجبل . وهذا لسان من قد فطر على العربية ولم يتكلفها فكانت ألفاظه حقيقة في معانيها . فلم يجز أن يعدل بزنأ في الجبل عن حقيقته ولا أن يعلق الحكم فيه بمجازه ، ولأن زنأت في الجبل لو كان حقيقة في الصعود وحقيقة في الفاحشة لكان ما قرن به من ذكر الجبل يصرفه عن حقيقة الفجور إلى الصعود ؛ لأن القرائن تصرف حقائق الألفاظ المطلقة إلى حقائق قرائنها .

                                                                                                                                            ألا تراه لو قال لها : أنت طالق من وثاق لم يقع به الطلاق ، وإن كان يقع بمجرد قوله : أنت طالق ، لأن القرينة بقوله : من وثاق قد صرفته عن حقيقته إلى مجازه ، وكذلك قوله زنأت في الجبل ، فعلى هذا لو قال لها : زنأت ولم يقل في الجبل لم يكن على الاستدلال الأول قذفا ، وكان على الاستدلال الثاني قذفا ، فصار على وجهين ، وفيما أوضحناه من هذين الاستدلالين انفصال عما تقدم الاحتجاج به إذا استوضح .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية