الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو تزوج امرأة في عدتها فأصابها ، فجاءت بولد فأرضعت مولودا كان ابنها وأري المولود القافة فبأيهما ألحق لحق ، وكان المرضع ابنه وسقطت أبوة الآخر " . قال الماوردي : وصورتها في امرأة تزوجت في عدتها ووضعت ولدا أرضعت بلبنه طفلا فالمرضع تابع للمولود ، وللمولود أربعة أحوال : [ ص: 394 ] أحدها : أن يلحق بالأول دون الثاني فيتبعه المرضع ، ويكون للأول دون الثاني . والحال الثانية : أن يكون المولود يلحق بالثاني دون الأول ، فيتبعه المرضع ، ويكون ابنا للثاني دون الأول . والحال الثالثة : أن ينتفي المولود عن الأول والثاني فيتبعه المرضع ، وينتفي عن الأول والثاني ، وذكر بعض أصحابنا أن إلحاق المرضع بالأول لثبوت لبنه كما لو لم تلد المرضعة ، وهذا ليس بصحيح ؛ لأن لبن الولادة قاطع لحكم ما تقدمه ، فإذا انتفت الولادة عن كل واحد منهما فأولى أن ينتفي الرضاع عنهما . والحال الرابعة : أن يمكن لحوق المولود بكل واحد منهما فيرى المولود للقافة فإن ألحقوه بالأول لحق به وتبعه المرضع ، وإن ألحقوه بالثاني لحق به ، وتبعه المرضع وإن أشكل على القافة أو عدموا وقف المولود إلى زمان الأنساب ، فإذا انتسب إلى أحدهما لحق به وتبع المرضع ، وإن مات قبل الانتساب ، وكان له ولد قام ولده مقامه في الانتساب ، فإذا انتسب إلى أحدهما لحق به وتبعه المرضع ، وإن لم يكن له ولد صار ثبوت النسب من جهة المولود معدوما . وقال الشافعي : " ضاع نسبه " ومعناه : ضاع النسب الذي يثبت به النسب ، وإذا كان كذلك ففي المرضع ثلاثة أقاويل : أحدها : أن يكون ابنا لهما جميعا بخلاف المولود ؛ لأنه لا يجوز أن يكون للمولود أبوان من نسب ؛ لأنه لا يخلق إلا من ماء أحدهما ، ويجوز أن يكون له أبوان من رضاع ؛ لأنه قد يرتضع من لبنهما ويكون غذاء اللبن لهما ، وإن كان الولد لأحدهما ؛ لأن اللبن قد يحدث بالوطء تارة ، وبالولادة أخرى فلذلك صار المرضع ابنا لهما ، وفي هذا القول ضعف من وجهين : أحدهما : أنه لو صار ابنا لهما بموت الولد لما جاز أن ينقطع عنه أبوة أحدهما بحياة الولد . والثاني : أن نزول اللبن إنما يضاف إلى الواطئ بالولادة لا بالوطء ؛ لأنه لو نزل لها بوطئه لبن فأرضعت به ولدا لم يصر ابنا للزوج حتى تلد منه ، فيصير اللبن له ، والمرضع به ابنا له ، فهذا قول . والقول الثاني : أن المرضع ينسب إلى أحدهما ، كما كان المولود ينسب إلى أحدهما ؛ لأنه تابع له فجرى عليه حكمه . فإن قيل : إنما انتسب المولود ؛ لأن الطبع جاذب ، والشبه غالب ، وهذا مفقود في [ ص: 395 ] المرضع ؛ ولذلك رجع إلى القافة في المولود ، ولم يرجع إليهم في المرضع . قيل : قد يحدث الرضاع من شبه الأخلاق مثل ما تحدثه الولادة من شبه الأجسام والصوت ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسترضعوا الحمقى فإن اللبن يغذي . وقال صلى الله عليه وسلم : أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ، وأخوالي بنو زهرة وارتضعت في بني سعد . ورأى عمر بن الخطاب رجلا ، فقال : أنت من بني فلان ؟ قال منهم رضاعا لا نسبا فأضافه إليهم بشبه الأخلاق كما تضيفه القافة بشبه الأجسام ، ولم يعول على القافة في إلحاق المرضع ، وإن عول عليهم في إلحاق المولود ؛ لأن شبه الأجسام والصور أقوى بظهوره ، وشبه الأخلاق والشيم أضعف لحقا به . والقول الثالث : أنه ينقطع عنه أبوة كل واحد منهما ولا خيار له في الانتساب إلى أحدهما ؛ لأن الأنساب تثبت من ثلاثة أوجه : بالفراش ، ثم القافة ، ثم الانتساب ، فلما لم يكن في الرضاع فراش ، ولم يثبت بالقافة لم يثبت بالانتساب وإن ثبت به النسب لأمرين : أحدهما : أن النسب لا يقع فيه اشتراك فجاز أن يعول فيه على الطبع الحادث ، ويقع في الرضاع اشتراك فعدم فيه الطبع الحادث . والثاني : أن امتزاج النسب موجود مع أصل الخلقة ، والرضاع حادث بعد استكمال الخلق واستقرار الخلق ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية