والثاني : أن الله تعالى قال : ثلاثة قروء فأثبت التاء في العدد ، وإثباتها يكون في معدود مذكر ، فإن أريد مؤنثا حذفت كما يقال : ثلاثة رجال ، وثلاث نسوة ، والطهر مذكر والحيض مؤنث فوجب أن يكون جمع المذكر متناولا للطهر المذكر دون الحيض المؤنث .
وقال تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] ومنه دليلان : أحدهما : أن قوله : لعدتهن أي لوقت عدتهن ، ثم كان هذا الطلاق مأمورا به في الطهر ، فوجب أن يكون . فإن قيل : إنما جعل الطهر عدة الطلاق دون الاحتساب فعنه جوابان : أحدهما : أن دخول لام الإضافة يقتضي أن تكون العدة لها لا عليها ، وعدة الاحتساب الذي هو لها أولى من حمله على عدة الطلاق الذي هو عليها مع قوله عز وجل : الطهر هو العدة دون الحيض وأحصوا العدة [ الطلاق : 1 ] والإحصاء لعدة الاحتساب دون الطلاق . والثاني : أنه محمول على الأمرين من عدة الطلاق والاحتساب معا ، فيكون أولى من حمله على أحدهم . والدليل الثاني : من الآية أن قوله تعالى : لعدتهن يقتضي استقبال العدة واتصالها بالطلاق لأمرين . أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : فطلقوهن لقبل عدتهن . وقبل الشيء : ما اتصل بأوله ، فكان القبل والاستقبال سواء . والثاني : أن دخول اللام على الشرط يقتضي اتصاله بالمشروط كما يقول القائل : [ ص: 168 ] أطعم زيدا ليشبع وأعط زيدا ليعمل ، يقتضي التعقيب دون التأخير . ومن جعل الأقراء الأطهار اعتد ببقية الطهر الذي وقع فيه هذا الطلاق المأمور به فوصل به العدة . ومن جعلها الحيض لم يعتد ببقيته ففصل بينه وبين العدة . فإن قيل : فنحن يمكننا أن نصل العدة بهذا الطلاق إذا كان في آخر الطهر ؛ لاتصال الحيض به وهو معتد به عندنا وغير معتد به عندكم ، فساويناكم في هذا الظاهر حيث وصلنا بينهما في هذا الوضع دونكم ووصلتم بينهما في ذلك الموضع دوننا . قيل : قد اختلف أصحابنا في الاعتداد بزمان الطلاق إذا كان آخر أجزاء الطهر على وجهين حكاهما ابن سري : أحدهما : يعتد به قرءا ، ويكون العدة والطلاق معا كما لو قال : أعتق عبدك عني بألف فأعتقه ، كان وقت عتقه وقتا للتمليك والعتق جميعا ، فعلى هذا لم يسلم لهم التساوي في الظاهر ، لأننا نساويهم في الموضع الذي استعملناه .
والوجه الثاني : وحكاه عن الشافعي نصا في الجامع الكبير أنه لا يقع الاعتداد بزمان الطلاق حتى يتعقبه زمان العدة ليتميزا ، فتكون العدة بعد الطلاق ، ولو وقع الاعتداد بزمان الطلاق لصارت العدة متقدمة على الطلاق ، وهذا مستحيل ، فعلى هذا هم يستعملون الظاهر في نادر غير معتاد ، ونحن نستعمله في غالب معتاد ، فكان حمل الظاهر على استعمال معتاد أولى من حمله على تكلف استعمال نادر . وأما السنة : فما روي أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : " مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء " . فجعل الطهر زمان العدة والطلاق ، فدل على أن الأقراء : الأطهار . فإن قيل : فقوله : فتلك إشارة منه إلى مؤنث ، فلم يجز أن يعود إلى الطهر لأنه مذكر وعاد إلى الحيض لأنه مؤنث . قيل : لا يجوز أن يتوجه الإشارة إلى الحيض ، لأن زمان الطلاق المأمور به الطهر دون الحيض ، وتكون إشارة التأنيث محمولة على العدة أو على حال الطهر والحال مؤنثة ، وأما الاعتبار فقياس واستدلال واشتقاق . [ ص: 169 ] فأما القياس فقياسان : أحدهما : ما أثبت الطهر . والثاني : ما نفى الحيض . فأما ما أثبت الطهر فقياسان : أحدهما : أن وجوب العدة إذا تعقبه طهر أوجب الاعتداد بذلك الطهر كالصغيرة والمؤيسة . والثاني : أن العدة إذا اشتملت على خارج من الرحم كان الاعتداد بحال كمونه دون ظهوره كالحمل . وأما ما نفى الحيض فقياسان : أحدهما : أن وجوب العدة إذا تعقبه حيض لم يقع الاعتداد به كالمطلقة في الحيض . والثاني : أنه دم لا يقع الاعتداد ببعضه ، فوجب أن لا يعتد بجميعه كدم النفاس ، وأما الاشتقاق فهو أن القرء من قرا يقري ؛ أي جمع ، ومنه قولهم : قرا الطعام في فمه ، وقرا الماء في جوفه ، ولذلك سمي مقراة لاجتماع الماء فيه كما قال امرؤ القيس :
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
. . . . . . . . . . . . . . . . ومن ذلك سميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها ، وسمي القرآن قرآنا لاجتماعه قال الله : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ القيامة : 18 ] يعني إذا جمعناه فاتبع اجتماعه ، وقيل : ما قرأت الناقة ساقطا أي : ما ضمت رحما على ولد ، قال الشاعر في صفة ناقة :تريك إذا دخلت على خلاء وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا