فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من هذا الأصل الذي عليه مدار الرضاع وبه يعتبر حكماه في التحريم والمحرم ، فانتشارهما من جهة المرضعة متفق عليه ، وانتشارهما من جهة الفحل مختلف فيه ، فمذهب  الشافعي   وما عليه الأكثرون أن  ثبوت الحرمة وانتشارها من جهة الفحل في التحريم والمحرم كثبوتها ، وانتشارها من جهة المرضعة   وبه قال من الصحابة :  علي بن أبي طالب   ،  وعبد الله بن عباس   ،  وعائشة  رضوان الله عليهم ومن التابعين  عطاء   ،  وطاوس   ،  ومجاهد   ، ومن الفقهاء :  أبو حنيفة   ومالك   والأوزاعي   ،  والليث بن سعد   ،  وأحمد   وإسحاق   ، وذهبت طائفة إلى أن الفحل لا ينتشر عنه حرمة الرضاع ، ولا يثبت من جهته تحريم ، ولا محرم ، ويجوز له أن ينكح المرتضعة بلبنه ، وكذلك ولده من غير المرضعة ، وبه قال من الصحابة :  ابن عمر   ،  وابن الزبير   ،  ورافع بن خديج   رضي الله تعالى عنهم ، ومن التابعين :  سعيد بن المسيب   ،  وسليمان بن يسار   ،  وأبو سلمة بن عبد الرحمن   ، ومن الفقهاء  النخعي   ،  وربيعة بن أبي عبد الرحمن   ،  وحماد بن أبي سليمان   ،  والأصم   وابن علية   ،  وأبو عبد الرحمن الشافعي   ،  وداود بن علي   ، وأهل الظاهر ، وجعله  داود   مقصورا على الأمهات والأخوات استدلالا بقول الله تعالى  وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة      [ النساء : 23 ] فخصهما بذكر التحريم ، ثم قال من بعد  وأحل لكم ما وراء ذلكم      [ النساء : 24 ] فدل على إباحة من عداهما وادعوا في ذلك إجماع الصحابة ، وهو ما روي أن  عبد الله بن الزبير   خطب   زينب بنت أبي سلمة  من أمها أم سلمة لأخيه  حمزة بن الزبير   ، فقالت : كيف أزوجها به وهو أخوها من الرضاعة ؟ فقال  عبد الله      : ذاك لو أرضعتها الكلبية ، وذلك أن  عبد الله بن الزبير   أمه   أسماء بنت أبي بكر  ،  وحمزة بن الزبير   أمه الكلبية ، وكانت  أسماء  قد أرضعت   زينب بنت أبي سلمة  فصارت زينب أختا  لعبد الله   من أبيه وأمه ، وأختا  لحمزة   من أبيه دون أمه فجعلها  عبد الله   أختا لنفسه ، ولم يجعلها أختا لأخيه  حمزة   ، ولا جعل اللبن لأبيه  الزبير   ، وقال   لأم سلمة     : سلي الصحابة ، فسألوا ، وذلك في أيام الحيرة فأباحوها له ، وقالوا : لبن الفحل لا يحرم فزوجت به ، وكانت عنده إلى أن مات      [ ص: 359 ] فصار إجماعا ؛ ولأن الفحل لو نزل له لبن فأرضع به ولد لم يصر له أبا فلأن لا يصير أبا له بلبن غيره أولى ، ولأن اللبن لو كان لهما لكان إذا أرضعت به ولدا يكون أجرة الرضاع بينهما ، فلما اختصت المرضعة بالأجرة دون الفحل دل على أن اللبن لها لا للفحل ، ولأن الرضاع لما اختص ببعض أحكام النسب لضعفه وجب أن يختص بالمرضعة لنفسه . ودليلنا قوله تعالى  حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم      [ النساء : 23 ] إلى قوله  وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة      [ النساء : 23 ] ومن الآية دليلان ، وينفصل بهما عن استدلالهم بها ، أحدهما : أنه نص على الأمهات تنبيها على البنات ، ونص على الأخوات تنبيها على الخالات والعمات اكتفاء بما تقدم تفصيله . والثاني : أن قوله  وأخواتكم   عموم يتناول الأخوات من الأم ، والأخوات من الأب فلم يقتض الظاهر تخصيص أحدهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :  يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب  ، وتحريم النسب عام في جهة الأبوين ، فكذلك تحريم الرضاع . وروى  هشام بن عروة   ، عن أبيه عن  عائشة  رضي الله تعالى عنها قالت :  دخل علي  أفلح   أخو  أبي قعيس   بعدما نزلت آية الحجاب ، فاستترت منه فقال : تستترين مني وأنا عمك ، فقالت من أين ؟ فقال : أرضعتك امرأة أخي فقالت : إنما أرضعتني امرأة ولم يرضعني رجل ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه ، فقال : إنه عمك فليلج عليك .  وهذا نص . ومن طريق المعنى أن كل من حرم بالنسب حرم بالرضاع كالأم ، وهذا مما وافق فيه لفظ السنة معناها ؛ ولأن المولود مخلوق من مائهما ، فكان الولد لهما وإن باشرت الأم ولادته فاقتضى أن يكون اللبن الحادث عنه لهما ، وإن باشرت الأم رضاعه ، وإذا كان اللبن لهما وجب أن تنتشر حرمته إليهما ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الرضاع في التحريم بالنسب ،  وأحكام النسب تنقسم ثلاثة أقسام      : قسم يختص بعمودي النسب الأعلى ، وهم الوالدان ، والأسفل وهم المولودون ولا يتجاوزهما إلى ما تفرع عليهما ، وذلك وجوب النفقة وسقوط القود ، والعتق بالملك والمنع من الشهادة . وقسم يختص بالنسب إلى حيث ما انتشر وتفرع وذلك الميراث . وقسم يختص بذي الرحم من ذوي الأرحام ، وذلك تحريم المناكح . فلما لم يلحق الرضاع بالقسم الأول في اختصاصه بعمودي النسب لتحريم الأخوات ، ولم يلحق بالقسم الثاني في اختصاصه بما تفرع على النسب لإباحة بنات      [ ص: 360 ] الأعمام والعمات ثبت لحوقه بالقسم الثالث في اختصاصه بذي الرحم والمحرم . فأما الجواب عن ادعائهم الإجماع فقد خالف فيه  علي   ،  وابن عباس   رضي الله تعالى عنهما ومع خلافهما يبطل الإجماع مع كون القياس معهما به . وأما الجواب بأن الفحل لو أرضع بلبنه لم يحرم ، فهو أنه لبن لم يخلق منه المولود فلذلك لم يتعلق عليه التحريم ، وجرى مجرى غيره من الألبان والأغذية ، وخالف فيه لبن المرأة المخلوق لغذاء المولود . وأما الجواب عن قولهم : لو كان اللبن لهما لكانت أجرة الرضاع بينهما فهو أن أصحابنا قد اختلفوا في  أجرة الرضاع   إلى ماذا ينصرف على وجهين : أحدهما : إلى الحضانة ، والرضاع تبع ، فعلى هذا يسقط الاستدلال . والوجه الثاني : إلى اللبن ، والحضانة تبع ، فعلى هذا : الأجرة مأخوذة على فعل الرضاع ؛ لأنه مشاهد معلوم ، وليست مأخوذة ثمنا للبن للجهالة به ، وفقد رؤيته ، ومن أصحابنا من جعلها ثمنا للبن ، وجعلها أحق به ، وإن اشتركا في سببه ؛ لأنها مباشرة كرجلين اشتركا في حفر بئر فاستقى أحدهما من مائها كان أحق بما استقاه لمباشرته ، وأما الجواب عن قولهم : إن اختصاصه ببعض أحكام النسب لضعفه يقتضي اختصاصه ببعض جهاته فهو أنه لما شارك النسب في التحريم وجب أن يشاركه في غير التحريم ، ويغلب ذلك دليلا عليهم ، فيقال لهم : لما كان المرتضع موافقا للمولود في الرضاع ومفارقا له في الولادة اقتضى أن يسلب بفقد النسب الواحد ما تعلق لسبب واحد والله أعلم .  
				
						
						
