الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
التاسع عشر : إذا كان سماعه على صفة فيها بعض الوهن فعليه أن يذكرها في حالة الرواية، فإن في إغفالها نوعا من التدليس، وفيما مضى لنا أمثلة لذلك .

ومن أمثلته ما إذا حدثه المحدث من حفظه في حالة المذاكرة، فليقل: ( حدثنا فلان مذاكرة )، أو ( حدثناه في المذاكرة )، فقد كان غير واحد من متقدم العلماء يفعل ذلك . وكان جماعة من حفاظهم يمنعون من أن يحمل عنهم في المذاكرة شيء، منهم: عبد الرحمن بن مهدي ، وأبو زرعة الرازي ، ورويناه عن ابن المبارك ، وغيره . وذلك لما قد يقع فيها من المساهلة، مع أن الحفظ خوان، ولذلك امتنع جماعة من أعلام الحفاظ من رواية ما يحفظونه إلا من كتبهم، منهم أحمد بن حنبل ، رضي الله عنهم أجمعين. والله أعلم .

العشرون: إذا كان الحديث عن رجلين : أحدهما مجروح مثل أن يكون عن ثابت البناني، وأبان بن أبي عياش، عن أنس، فلا يستحسن إسقاط المجروح من الإسناد، والاقتصار على ذكر الثقة، خوفا من أن يكون فيه عن المجروح شيء لم يذكره الثقة، قال نحوا من ذلك أحمد بن حنبل ، ثم الخطيب أبو بكر .

قال الخطيب : "وكان مسلم بن الحجاج في مثل هذا ربما أسقط المجروح من الإسناد ويذكر الثقة" ثم يقول: " وآخر " كناية عن المجروح ، قال : "وهذا القول لا فائدة فيه ".

قلت : وهكذا ينبغي إذا كان الحديث عن رجلين ثقتين أن لا يسقط أحدهما منه، لتطرق مثل الاحتمال المذكور إليه، وإن كان محذور الإسقاط فيه أقل ، ثم لا يمتنع ذلك في الصورتين امتناع تحريم ; لأن الظاهر اتفاق الراويين ، وما ذكر من الاحتمال نادر بعيد، فإنه من الإدراج الذي لا يجوز تعمده كما سبق في نوع المدرج. والله أعلم .

الحادي والعشرون: إذا سمع بعض حديث من شيخ، وبعضه من شيخ آخر، فخلطه، ولم يميزه، وعزى الحديث جملة إليهما، مبينا أن عن أحدهما بعضه، وعن الآخر بعضه، فذلك جائز، كما فعل الزهري في حديث الإفك، حيث رواه، عن عروة، وابن المسيب، وعلقمة بن وقاص الليثي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة رضي الله عنها، وقال : "وكلهم حدثني طائفة من حديثها، قالوا : قالت: ...." الحديث.

ثم إنه ما من شيء من ذلك الحديث إلا وهو في الحكم كأنه رواه عن أحد الرجلين على الإبهام، حتى إذا كان أحدهما مجروحا لم يجز الاحتجاج بشيء من ذلك الحديث، وغير جائز لأحد بعد اختلاط ذلك أن يسقط ذكر أحد الراويين، ويروي الحديث عن الآخر وحده، بل يجب ذكرهما جميعا مقرونا بالإفصاح بأن بعضه عن أحدهما، وبعضه عن الآخر . والله أعلم .

[ ص: 727 ] [ ص: 728 ]

التالي السابق


[ ص: 727 ] [ ص: 728 ] 123 - قوله: (إذا سمع بعض حديث من شيخ، وبعضه من شيخ آخر، فخلطه، ولم يميزه، وعزى الحديث جملة إليهما، مبينا أن عن أحدهما بعضه، وعن الآخر بعضه، فذلك جائز، كما فعل الزهري في حديث الإفك ...) فذكره، ثم [ ص: 729 ] قال: (وغير جائز لأحد بعد اختلاط ذلك أن يسقط ذكر أحد الراويين ويروي الحديث عن الآخر وحده ...) إلى آخر كلامه.

وقد اعترض عليه بأن البخاري أسقط ذكر أحد شيخيه أو شيوخه في مثل هذه الصورة، واقتصر على ذكر شيخ واحد، فقال في (كتاب الرقاق) من صحيحه في (باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا):

"حدثني أبو نعيم بنصف من هذا الحديث، ثنا عمر بن ذر، ثنا مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع" الحديث، انتهى.

[ ص: 730 ] والجواب: أن الممتنع إنما هو إسقاط بعض شيوخه وإيراد جميع الحديث عن بعضهم؛ لأنه حينئذ يكون قد حدث عن المذكور ببعض ما لم يسمعه منه، فأما إذا بين أنه لم يسمع منه إلا بعض الحديث كما فعل البخاري هنا فليس بممتنع.

وقد بين البخاري في موضع آخر من صحيحه القدر الذي سمعه من أبي نعيم من هذا الحديث، أو بعض ما سمعه منه، فقال في (كتاب الاستئذان): "حدثنا أبو نعيم، ثنا عمر بن ذر، وحدثنا محمد بن مقاتل، [ ص: 731 ] أنا عبد الله، أنا عمر بن ذر، أنا مجاهد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح فقال: "أبا هر! الحق أهل الصفة فادعهم إلي" قال: "فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا". انتهى.

فهذا هو بعض حديث أبي نعيم الذي ذكره في الرقاق، وأما بقية الحديث فيحتمل أن البخاري أخذه من كتاب أبي نعيم وجادة أو إجازة له، سمعه من شيخ آخر غير أبي نعيم، أما محمد بن مقاتل الذي روى عنه في الاستئذان بعضه أو غيره ولم يبين ذلك، بل اقتصر على اتصال بعض الحديث من غير بيان. ولكن ما من قطعة منه إلا وهي محتملة؛ لأنها غير متصلة بالسماع، إلا القطعة التي صرح البخاري في الاستئذان باتصالها. والله أعلم.




الخدمات العلمية