الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( فحكم بقول مقلده )

                                                                                                                            ش : قال ابن فرحون : فصل يلزم القاضي المقلد إذا وجد المشهور أن لا يخرج عنه وذكر عن المازري - رحمه الله - أنه بلغ درجة الاجتهاد وما أفتى قط بغير المشهور وعاش ثلاثا وثمانين سنة وكفى به قدوة في هذا فإن لم يقف على المشهور من القولين أو الروايتين فليس له التشهي والحكم بما شاء منهما من غير نظر وترجيح فقد قال ابن الصلاح - رحمه الله - في كتاب أدب المفتي والمستفتي : اعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو علمه موافقا لقول أو وجه في المسألة أو يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح فقد جهل وخرق الإجماع

                                                                                                                            وسبيله سبيل الذي حكى أبو الوليد الباجي عن فقهاء أصحابه إنه كان يقول الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه وحكى الباجي عمن يثق به أنه وقعت له واقعة فأفتى فيها وهو غائب من فقهائهم يعني المالكية من أهل الصلاح بما يضره فلما عاد سألهم فقالوا ما علمنا أنها لك وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه ، قال الباجي : وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز وقال ابن الصلاح : فإذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح اختلافا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين فينبغي أن يفزع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بآرائهم فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم فإذا اختص أحدهم بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم وكذا إذا وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد من أئمة المذهب بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما أو قائليهما ، قال ابن فرحون : وهذا الحكم جار في أصحاب المذاهب الأربعة ومقلديهم وقال بعده بأسطر يسيرة : وهذه الأنواع من الترجيح معتبرة أيضا بالنسبة إلى أئمة المذهب ، قال ابن أبي زيد في أول النوادر : إن كتابه اشتمل على كثير من اختلاف المالكيين ، قال : ولا ينبغي الاختيار من الاختلاف للمتعلم ولا للمقصر ومن لم يكن فيه محل لاختيار القول فله في اختيار المفتين من أصحابنا من نقادهم مقنع مثل سحنون وأصبغ وعيسى بن دينار ومن بعدهم مثل ابن المواز وابن عبدوس وابن سحنون ، وابن المواز أكثرهم تكلفا للاختيارات وابن حبيب لا يبلغ في اختياراته وقوة رواياته مبلغ من ذكرنا ، انتهى كلام ابن فرحون ثم نقل عن القرافي في كتاب الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ما نصه :

                                                                                                                            الحاكم إن كان مجتهدا لم يجز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به أمامه وأما اتباع الهوى في القضاء والفتيا فحرام إجماعا نعم اختلف العلماء إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد وتساوت وعجز عن الترجيح هل يتساقطان أو يختار أحدهما يفتي به قولان للعلماء فعلى أنه يختار للفتيا فله أن يختار أحدهما يحكم به مع أنه ليس براجح عنده وهذا مقتضى الفقه والقواعد وعلى هذا التقدير فيتصور الحكم بالراجح وغير الراجح وليس اتباعا للهوى بل ذلك بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح وحصول التساوي أما الفتيا والحكم بما هو مرجوح فخلاف الإجماع وقال أيضا في أول هذا الكتاب : إن للحاكم أن يحكم بأحد القولين المتساويين من غير ترجيح ولا معرفة بأدلة القولين إجماعا فتأمل هذا مع ما سبق من كلامه في قوله بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح ، انتهى كلام ابن فرحون فتحصل منه أنه إذا تساوى القولان من كل وجه أو عجز عن الاطلاع على أوجه الترجيح فله أن يحكم أو يفتي بأحد القولين ومن ابن فرحون أيضا واعلم أنه لا يجوز للمفتي أن يتساهل في [ ص: 92 ] الفتوى ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى ، والتساهل قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى أو الحكم قبل استيفاء حقه من النظر والفكر وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ولأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل وقد يكون تساهله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحذورة أو المكروهة بالتمسك بالشبه طلبا للحرص على من يروم نفعه أو التغليط على من يروم ضرره ، قال ابن الصلاح : ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه ، قال :

                                                                                                                            وأما إذا صح قصد المفتي واحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ولا تجر إلى مفسدة ليخلص بها المفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسن جميل وقال القرافي : إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل فلا ينبغي للمفتي أن يفتي العامة بالتشديد والخواص وولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين ، والحاكم كالمفتي في هذا ، انتهى .

                                                                                                                            ( فروع الأول ) ما تقدم عن القرافي إنما هو إذا وجد في النازلة نصا فأما إن لم يجد فنقل في التوضيح عند قول ابن الحاجب فيلزمه المصير إلى قول مقلده عن ابن العربي ما نصه : ويقضي حينئذ بفتوى مقلده بنص النازلة فإن قاس على قوله أو قال : يجيء من كذا كذا فهو متعد خليل وفيه نظر والأقرب جوازه للمطلع على مدارك إمامه ، انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن عرفة إثر نقله كلام ابن العربي ( قلت ) يرد كلامه ; لأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام ; لأن الفرض عدم المجتهد لامتناع تولية المقلد مع وجوده فإذا كان حكم النازلة غير منصوص عليه ولم يجز للمقلد المولى القياس على قول مقلده في نازلة أخرى تعطلت الأحكام وبأنه خلاف عمل متقدمي أهل المذهب كابن القاسم في المدونة في قياسه على أقوال مالك ومتأخريهم كاللخمي وابن رشد والتونسي والباجي وغير واحد من أهل المذهب بل من تأمل كلام ابن رشد وجده يعد اختياراته بتخريجاته في تحصيله الأقوال أقوالا ، انتهى . وقد عد هو أعني ابن عرفة فتوى ابن عبد الرءوف وابن السباق وابن دحون ونحوهم أقوالا ذكر ذلك في السلم في شرط كونه يتعلق بالذمم ونقل لابن الطلاع قولا في المذهب نقله في غسل الوجه في الوضوء وجعله مقابلا لقول ابن القصار وكان الشيخ خليل وابن عرفة لم يقفا على كلام القرافي في الذخيرة وبحثه مع ابن العربي ونصه بعد أن ذكر كلام ابن العربي

                                                                                                                            ( تنبيه ) قوله فإن قاس على قوله فهو متعد ، قال العلماء : المقلد قسمان ، محيط بأصول مذهب مقلده وقواعده بحيث تكون نسبته إلى مذهبه كنسبة المجتهد المطلق إلى أصول الشريعة وقواعدها فهذا يجوز له التخريج والقياس بشرائطه كما جاز للمجتهد المطلق ، وغير محيط فلا يجوز له التخريج ; لأنه كالعامي بالنسبة إلى حملة الشريعة فينبغي أن يحمل قوله على القسم الثاني فيتجه وإلا فمشكل ، انتهى من الباب الثاني ، وقال في الباب الخامس : المقلد له حالان تارة يحيط بقواعد مذهبه فيجوز له تخريج غير المنصوص على المنصوص بشرط تعذر الفرق ومع إمكانه يمتنع ; لأن نسبته إلى إمامه وقواعده كنسبة المجتهد المطلق إلى صاحب الشريعة وشريعته حكما فكما للمجتهد المطلق التخريج عند عدم الفارق ويمتنع عند الفارق فكذلك هذا المقلد ، وتارة لا يحيط بقواعد مذهبه فلا يجوز له التخريج وإن بعد الفارق لاحتمال أنه لو اطلع على قواعد مذهبه لأوجب له الاطلاع الفرق ، ونسبته إلى مذهبه كنسبة من دون المجتهد المطلق إلى حملة الشريعة فكما يحرم على المقلد التخريج فيما ليس مذهب العلماء ويحرم عليه اتباع الأدلة ويجب عليه أن لا يعمل إلا بقول عالم وإن [ ص: 93 ] لم يظهر له دليله لقصوره عن رتبة الاجتهاد فكذلك هذا وهو المراد بما تقدم في شروط القضاء أنه لا يخرج ولا يحكم إلا بالمنصوص فافهم هذا التخريج فإنه يطرد في الفتيا أيضا ، انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن رشد في أجوبته في جواب سؤال : سئل عنه والسؤال عن الحكم في أمر القاضي إذا كان ملتزما للمذهب المالكي وليس في نظره من نال درجة الفتوى ولا هو في نفسه أهل لذلك قد مضى القول عليه فيما وصفناه من حال الطائفة التي عرفت صحة مذهب مالك ولم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول ; لأنه لا يكون للمذهب المالكي إلا بما بان له من صحة أصوله فسبيل هذا القاضي فيما يمر به من نوازل الأحكام التي لا نص عنده فيها من قول مالك أو قول بعض أصحابه التي قد بانت له صحة أن لا يقضي فيها إلا بفتوى من يسوغ له الاجتهاد ويعرف وجه القياس إن وجده في بلده وإلا طلبه في غير بلده فإن قضى فيه برأيه ولا رأي له أو برأي من لا رأي له كان حكمه موقوفا على النظر ويأمر الإمام القاضي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد ولا كان في بلده من يسوغ له الاجتهاد لا يقضي فيما سبيله الاجتهاد إلا بعد مشورة من يسوغ له الاجتهاد ، انتهى . وسيأتي كلامه على الطائفة التي أحال عليها في الكلام على المفتي وقال ابن الحاجب : فإن لم يوجد مجتهد فمقلد فيلزمه المصير إلى قول مقلده وقيل لا يلزمه وقيل لا يجوز له إلا باجتهاده ، قال ابن عبد السلام : يعني إن ولي مقلد لعدم المجتهد فهل يلزمه الاقتصار على قول إمامه أو لا يلزمه ذلك ؟ والأصل عدم اللزوم وهو الأقرب إلى عادة المتقدمين فإنهم ما كانوا يحجرون على العوام اتباع عالم واحد ولا يأمرون من سأل أحدهم عن مسألة أن لا يسأل غيره لكن الأولى عندي في حق القاضي لزوم طريقة واحدة وأنه إذا قلد إماما لا يعدل عنه لغيره ; لأن ذلك يؤدي إلى اتهامه بالميل مع أحد الخصمين ولما جاء من النهي عن الحكم في قضية بحكمين مختلفين ، انتهى . قال ابن عرفة إثر نقله له ( قلت ) حمله كلام المؤلف على أن في لزوم المقلد اتباع قول إمامه وجواز انتقاله عنه إلى قول غيره قولين فيه نظر ; لأن القولين على هذا الوجه ليسا بموجودين في المذهب فيما أدركت ، والصواب تفسير القولين بما قدمناه من قول ابن العربي بنص قول مقلده فإن قاس عليه أو قال : يجيء من كذا فهو متعد وبقول التونسي واللخمي وابن رشد والباجي وأكثر الشيوخ بالتخريج من قول مالك وابن القاسم وغيرهما حسبما قدمناه عنهم ، انتهى .

                                                                                                                            بل في نظره نظر ولا أرجحية لحمله ; لأن القولين اللذين فسر ابن عبد السلام بهما كلام ابن الحاجب موجودان ، أما الأول فبقول ابن العربي : يحكم بفتوى مقلد بنص النازلة ، والثاني حكاه في الجواهر عن الطرطوشي ونصه : ولا يلزم أحدا من المسلمين أن يقلد في النوازل والأحكام من يعتزي إلى مذهبه فمن كان مالكيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى قول مالك ، وهكذا القول في سائر المذاهب بل أينما أداه اجتهاده من الأحكام صار إليه فإن شرط على القاضي أن يحكم بمذهب إمام معين فالعقد صحيح والشرط باطل كان موافقا لمذهب المشترط أو مخالفا له ، انتهى . من التوضيح . وانظر هذا مع ما نقله ابن فرحون في تبصرته في الباب الرابع من القسم الأول فإنه نقل عن الطرطوشي أن العقد باطل والشرط باطل ، انتهى . فتأمله ثم قال ابن عبد السلام

                                                                                                                            وقوله : وقيل لا يجوز إلا باجتهاد يعني أنه لا يجوز تولية المقلد ألبتة ويرى هذا القائل أن رتبة الاجتهاد موجودة لزمن انقطاع العلم كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ ، قال ابن عرفة : حمله على عدم تولية المقلد مطلقا هو ظاهر لفظه وقبوله إياه يقتضي وجوده في المذهب ولا أعرفه في المذهب إلا ما حكاه المازري عن الباجي في تعليله : منع تولية قاضيين لا ينفذ حكم أحدهما دون [ ص: 94 ] الآخر فإن ذلك يوجب التعطيل ; لأن غالب المجتهدين الخلاف والمقلدان توليتهما ممنوعة كذا نقل المازري عن الباجي ولم أجده له في المنتقى ولا في كتاب ابن زرقون ، انتهى . ثم ذكر ما نقلناه عنه أولا وهو قوله وما أشار إليه من يسر الاجتهاد إلى آخره ثم قال : والأظهر تفسير كلام ابن الحاجب بجعل الضمير المخفوض في قوله باجتهاده عائدا على مقلده بفتح اللام ومعناه أنه يجوز للقاضي المقلد لمالك مثلا في المسألة التي لا نص فيها أن يجتهد فيها باجتهاد إمامه أي : بقواعده المعروفة له في طرق الأحكام الكلية كقاعدته في تقديم عمل أهل المدينة على خبر الواحد العدل وعلى القياس وكقوله بسد الذرائع إلى غير ذلك من قواعده المخصوصة به في أصول الفقه ولا يجوز له أن يجتهد في القياس على قوله اجتهادا مطلقا من غير مراعاة قواعده الخاصة به فيتحصل من نقل ابن الحاجب في اجتهاد المقلد فيما لا نص لمقلده فيه ثلاثة ، أقوال المنع مطلقا وهو نص ابن العربي وهو ظاهر ما تقدم من نقل الباجي ولا يفتي إلا من هذه صفته إلا أن يخبر بشيء سمعه ، والثاني جواز القياس مطلقا من غير مراعاة قواعده الخاصة به وهو قول اللخمي وفعله ; ولذا قال عياض في مداركه اختيارات له خرج بكثير منها عن المذهب

                                                                                                                            الثالث جواز اجتهاده بعد مراعاة قواعد إمامه الخاصة به وهذا هو مسلك ابن رشد والمازري والتونسي وأكثر الإفريقيين الأندلسيين وأما الملازمة في قوله وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ ففي صدقها نظر ; لأن تقديرها إن خلا الزمان عن مجتهد اجتمعت الأمة على الخطأ وهذه مصادرة ; لأنه لا يلزم كونها مخطئة إلا إذا ثبت عدم الاكتفاء بالتقليد وأما إذا كان جائزا فلا والمسألة مشهورة في أصول الفقه ، قال ابن الحاجب : يجوز خلو الزمان عن مجتهد خلافا للحنابلة زاد الآمدي وغيره وجوزه آخرون وهو المختار ، انتهى .

                                                                                                                            وقال المشذالي في حاشيته : ولا خلاف بين المحققين أن القاضي في هذا الزمان مفتقر إلى حفظ واسع واطلاع بارع وإدراك جيد نافع وخصوصا المدونة فإن فيها أزمة وافرة فلما يرجع إلى اقتناص الأحكام ومن كتب الأحكام المتيطية فإن فيها جملة صالحة والتوفيق بيد الله .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية