الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما صوت العبد فقد تكلم فيه طائفة من المنتسبين إلى الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما، فمنهم من قال: إن الصوت المسموع قديم، ومنهم من يقول: يسمع شيئين الصوت القديم والمحدث، وهذا خطأ في العقل الصريح، وهو بدعة، وقول قبيح.

والإمام أحمد وجماهير أصحابه منكرون لما هو أخف من ذلك، فإن أحمد وأئمة أصحابه قد أنكروا على من قال: اللفظ بالقرآن غير مخلوق، فكيف بمن قال: اللفظ به قديم، فكيف بمن قال: [ ص: 313 ] الصوت غير مخلوق؟ فكيف بمن قال: الصوت قديم؟ وقد بدعوا هؤلاء، وأمروا بهجرهم، وقد صنف المروذي في ذلك مصنفا كبيرا ذكره الخلال في كتاب السنة كما جهموا وبدعوا من قال: اللفظ به مخلوق أيضا، كما بين في موضعه.

إذ المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء من لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل، لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل، بل لم يعرف إلا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام، ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية، ولا هو قول المسلمين بالحشوية، فأين ذلك القول؟ أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقا ولا باطلا؟

ومعلوم أن كل قول من هذه الأقوال فاسد من وجوه، وقد يكون بعضها أفسد من بعض، فقول المعتزلة الذين قالوا: "إن كلام الله مخلوق" وإن كان فاسدا من وجوه، فقول الكلابية فاسد من وجوه، وقول الكرامية فاسد من وجوه. والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا هذه الأقوال كلها: أنكروا قول الكلابية والكرامية بالنصوص الثابتة عنهم، وإنكارهم لقول المعتزلة متواتر مستفيض عنهم، وأنكروا على من جعل ألفاظ العباد بالقرآن غير [ ص: 314 ] مخلوقة، فكيف بالقول المنسوب إلى هؤلاء الحشوية؟ ولهذا لما كان أبو حامد مستمدا من كلام أبي المعالي وأمثاله، وأراد الرد على الفلاسفة في " التهافت " ، ذكر أنه يقابلهم بكلامالمعتزلة تارة، وبكلام الكرامية تارة، وبكلام الواقفة تارة، كما يكلمهم بكلام الأشعرية، وصار في البحث معهم إلى مواقف غايته فيها بيان تناقضهم، وإذا ألزموه تناقضه فر إلى الوقف.

ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر أو تفصيل. ومن المعلوم أن كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام موافق لصريح العقل، فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بمحالات العقل، وإنما يخبرون بمجازات العقول، وما يعلم بصريح العقل أنتفاؤه لا يجوز أن يخبر به الرسل، بل تخبر بما لا يعلمه العقل وبما يعجز العقل عن معرفته.

ومن المعلوم أن السلف والأئمة لهم قول خارج عن قول المعتزلة والكرامية والأشعرية والواقفة، ومن علم ذلك القول فلا بد أن يحكيه ويناظرهم به، كما يناظرهم بقول المعتزلة وغيرهم، لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة، [ ص: 315 ] وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول إلا بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العملية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم، بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه: هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه، تحقيقا لقوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ سورة البقرة: 286].

التالي السابق


الخدمات العلمية