الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الحجة الثانية - وهي أنه "لو كان قابلا لها لكان قابلا لها في الأزل، وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال - فقد أجاب عنها بالمعارضة بأنه قادر على الحوادث، ولا يلزم من كون القدرية أزلية أن يكون إمكان المقدور أزليا.

قلت: ويمكن أن يجاب عنها بوجوه أخرى:

أحدها: أنه لا يسلم أنه إذا كان قابلا لحدوث الحادث أن يكون قابلا له في الأزل إلا إذا أمكن وجود ذلك في الأزل، فإنه إذا قيل: "هو قابل لما يمتنع أن يكون أزليا" كان بمنزلة أن يقال: هو قادر على ما يمتنع أن يكون أزليا، فمن اعتقد امتناع حدوث حادث في الأزل، وقال مع ذلك بأنه قادر على الحوادث وقابل لها، لم يلزمه القول بإمكان وجود المقدور المقبول في الأزل، لكن هذا المقام هو مقام الذين يقولون "يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث" والكلام في هذا مشترك بين كونه قادرا وقابلا، فمن جوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث - كالكلابية وأمثالهم من المعتزلة والكرامية - كان كلامه في هذا [ ص: 182 ] بمنزلة كلامه في هذا، ومن قال: "إن حدوث الحوادث لا بد له من سبب حادث" - كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث وغيرهم الذين يقولون: إنه تقوم به الأمور المتعلقة بقدرته ومشيئته، ولم يزل كذلك، أو يقولون بتعاقب ذلك في غيره، كما يشترك في هذا الأصل من يقوله من الهشامية والمعتزلة والمرجئة وأهل الحديث والسلفية والفلاسفة ومن وافق هؤلاء من أتباع الأشعري وغيرهم - فقولهم في هذا كقولهم في هذا.

الوجه الثاني: أن يلتزم قائل ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل، كما يلتزم من يلتزم إمكان وجود المقدور في الأزل، وقد عرف أن لطوائف المسلمين في هذا الأصل قولين معروفين، فإن ما لا يتناهى من الحوادث: هل يمكن وجوده في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو فيهما جميعا؟ على ثلاثة أقوال معروفة، قال بكل قول طوائف من نظار المسلمين وغيرهم.

الوجه الثالث: أن يجاب بجواب مركب، فيقال: هو قابل لما هو قادر عليه، فإن كان ثبوت جنسها في الأزل ممكنا كان قابلا لذلك في الأزل وقادرا عليه في الأزل، وإن لم يكن ثبوت هذا الجنس ممكنا في الأزل كان قابلا للممكن من ذلك، كما هو قادر على الممكن من ذلك.

الوجه الرابع: أن يقال: كونه قابلا أو ليس بقابل: هو نظر في [ ص: 183 ] محل هذه الأمور، وليس نظرا في إمكان تسلسلها أو امتناع ذلك، كما أن النظر في كونه يقبل الاتصاف بالصفات - كالعلم والقدرة - هو نظر في إمكان اتصافه بذلك. فأما وجوب تناهي ما مضى من الحوادث أو ما بقي، وإمكان وجود جنس الحوادث في الأزل: فذلك لا اختصاص له بمحل دون محل، فإن قدر امتناع قيام ذلك به فلا فرق بين المتسلسل والمتناهي، وإن قدر إمكان ذلك كان بمنزلة إمكان حدوث الحوادث المنفصلة، والكلام في إمكان تسلسلها وعدم إمكان ذلك مسألة أخرى.

الجواب الخامس: أن يقال: هذه الأمور المقبولة هي من الحوادث المقدورة، بخلاف الصفات اللازمة له، فإنها ليست مقدورة، فالمقبولات تنقسم إلى مقدور وغير مقدور، كما أن المقدورات تنقسم إلى مقبول وغير مقبول، وما يقوم بالذات من الحوادث هو مقبول مقدور، وحينئذ فإذا كان وجود المقدور في الأزل محالا كان وجود هذا المقبول في الأزل محالا ؛ لأن هذا المقبول مقدور من المقدورات، وإذا كان وجود هذه الحوادث المقدورة المقبولة محالا في الأزل لم يلزم من ذلك امتناع وجودها فيما لا يزال، كسائر الحوادث، ولم يزل من كون الذات قابلة لها إمكان وجودها في الأزل.

الجواب السادس: أن يقال: أنتم تقولون: "إنه قادر في الأزل" مع امتناع وجود المقدور في الأزل، وتقولون: "إنه قادر في الأزل على ما لا يزال" فإن كان هذا الكلام صحيحا أمكن أن يقال في [ ص: 184 ] المقبول كذلك، ويقال: هو قابل في الأزل مع امتناع وجود المقبول في الأزل، وهو قابل في الأزل لما لا يزال، وإن كان هذا الكلام باطلا لزم إمكان وجود المقدور في الأزل، وإما امتناع كونه قادرا في الأزل، وعلى التقديرين: يبطل ما ذكرتموه من الفرق بين القادر وبين القابل بقولكم: "تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول".

الجواب السابع: أن يقال: أنتم اعتمدتم في هذا على أن تلك القابلية يجب أن تكون من لوازم الذات، ويلزم من ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل ؛ لأن قابلية الشيء لغيره نسبة بين القابل والمقبول، والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما، فيقال لكم: إن كانت النسبة بين الشيئين موقوفة عليهما - أي على تحققهما معا في زمن واحد، كما اقتضاه كلامكم - بطل فرقكم، وهو قولكم "بأن تقدم القدرة على المقدور واجب" فإن القدرة نسبة بين القادر والمقدور، مع وجوب تقدم القدرة على المقدور، وهكذا تقولون "الإرادة قديمة، مع امتناع وجود المراد في الأزل" وتقولون: "الخطاب قديم، مع امتناع وجود المخاطب في الأزل" فإذا كنتم تقولون بأن هذه الأمور التي تتضمن النسبة بين شيئين تتحقق في الأزل مع وجود أحد المنتسبين دون الآخر، أمكن [ ص: 185 ] أن يقال: إن القابلية متحققة في الأزل، مع امتناع تحقق المقبول في الأزل، كما قال كثير من الناس: إن التكوين ثابت في الأزل، مع امتناع وجود المكون في الأزل.

التالي السابق


الخدمات العلمية