الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما سؤالك عن سبب حدوثه فهنا لأهل الإثبات جوابان:

أحدهما: - وهو جواب الكرامية ومن وافقهم - أن إثبات الفعل للمفعول والخلق للمخلوق لا بد منه، فإنا نعقل أن القادر على الفعل قبل أن يفعله ليس له فعل، فإذا فعله كان هناك فعل به فعل المفعول، وخلق به خلق المخلوق، ونحن مقصودنا إثبات فعل وصفة لله تقوم به مغاير لمخلوقاته، وكلامه من هذا الباب، ونحن لم نورد عليكم التسلسل، فإن ذلك باطل على قولنا وقولكم جميعا.

الجواب الثاني: أن يقول من يجيب به: لا يمتنع أن يكون قبل الفعل المعين ما هو أيضا فعل فعله الله بقدرته، ولا يضرني التسلسل، فإن ذلك جائز ممكن، فإن هذا تسلسل في الأفعال والآثار والشروط، وهذا ليس بممتنع.

فعلى الجواب الأول: يظهر قوله: "إنما قلت لم يزل الخالق سيخلق وسيفعل، ولم أقل لم يزل يخلق ويفعل". [ ص: 267 ]

وأما على الجواب الثاني: "فإذا قال: لم أقل لم يزل يخلق ويفعل، بل أقول: إنه لم يزل سيخلق وسيفعل، فنقرره بوجهين:

أحدهما: أن الفعل لا يستلزم وجود مخلوق، بل يكون الفعل قائما بنفسه بعد فعل قائم بنفسه، وهلم جرا من غير وجود مخلوق منفصل عنه.

الثاني: أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال فما من مفعول ولا فعل إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن، فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال، إذ كان كل منهما حادثا بعد أن لم يكن، والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارنا للقديم الذي لم يزل، وإذا قيل: "إن نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل" فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعا، لا يوجد إلا متعاقبا، فإذا قيل: "لم يزل الفاعل يفعل، والخالق يخلق" - والفعل لا يكون إلا معينا، والخلق والمخلوق لا يكون إلا معينا - فقد يفهم أن الخالق للسماوات والإنسان لم يزل يخلق السماوات والإنسان، والفاعل لذلك لم يزل يفعله، وليس كذلك، بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه، ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله، فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله، ليس موصوفا بأنه لم يزل فاعلا له خالقا له، بمعنى أنه موجود معه في الأزل، وإن قدر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلا لفعل آخر، وقبل هذا المخلوق خالقا لمخلوق آخر، فهو لم يزل بالنسبة إلى كل [ ص: 268 ] فعل ومخلوق سيفعله وسيخلقه، لا يقال: لم يزل فاعلا له خالقا بمعنى مقارنته له. وإذا أريد أنه لم يزل فاعلا للنوع، كان هذا بمعنى قولنا: "إنه لم يزل سيفعل ما يفعله" لكن هذه العبارة تفهم من الباطل ما لا تفهمه تلك العبارة.

وهذا الموضع للناس فيه أقوال، فإن جمهور أهل السنة يقولون: لم يزل الله خالقا فاعلا، كما قال الإمام أحمد: لم يزل الله عالما متكلما غفورا، بل يقولون: لم يزل يفعل، إما بناء على أن الفعل قديم وإن كان المفعول محدثا، أو بناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل.

التالي السابق


الخدمات العلمية