الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومقصود عبد العزيز: أن القدرة صفة لله، ليست هي الفعل الذي كان عن القدرة، فإنه يقول: لم يزل الله قادرا، ولا يقول: لم يزل فاعلا.

فعارضه المريسي بأن هذا يلزمك أيضا، فيلزمك أن تقول: لم يزل يفعل ويخلق. وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله.

فقال له عبد العزيز: ليس لك أن تحكم علي وتلزمني ما لا يلزمني، وتحكي عني ما لم أقل، وذلك لأن عبد العزيز لم يقل في هذا قولا يحكى [ ص: 272 ] عنه، ولكن قال له: إما أن تلتزم أنت ما ألزمتني، وإلا التزمت أن تقول: إن المخلوق لم يزل مع الله.

وهذا الذي قاله المريسي إنما يلزم عبد العزيز إذا أبطل كل قسم مما يمكن أن يقال في هذا المقام، وهو لم يفعل ذلك، ولا سبيل له إليه، بخلاف ما ألزمه إياه عبد العزيز، فإنه لازم له لا محالة، إذ كان قوله: "إن المخلوقات كلها - وكلام الله عنده من جملتها - حدثت بعد أن لم تكن من غير فعل فعله الله، بل بقدرته التي لم تزل" مع أن عبد العزيز قد بين فيما بعد أن ما أقر به المريسي يكفيه في الاحتجاج في مسألة القرآن، فإن المريسي أقر بأن الله خلقها بقدرته، فأثبت هنا معنى هو صفة لله تعالى ليس بمخلوق، فبطل أصل قوله الذي نفى به الصفات، وقال: إن القرآن مخلوق، لكن عبد العزيز بين له ما يلزمه، وما أقر به، وأن الحجة تحصل بهذا وبهذا، وأما المريسي فعارضه بأن قال: يلزمك ما ألزمتني.

وذلك مبني على مقدمات لم يذكر منها واحدة.

أحدها: أن يقول: إذا كان أحدث الأشياء بفعله الكائن عن قدرته حصل المقصود من غير إثبات قديم مع الله تعالى، ولهذا قال له عبد العزيز: "إنما قلت: الفعل صفة لله، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع" وفي نسخة أخرى زيادة على ذلك: "إنما قلت: إنه لم يزل الفاعل سيفعل، ولم يزل الخالق سيخلق ؛ لأن الفعل صفة لله". [ ص: 273 ]

وهذه الزيادة لم تتقدم في كلام عبد العزيز، فإما أن تكون ملحقة من بعض الناس في بعض النسخ، أو يكون معنى الكلام: إنما قولي هذا، وإنما قلت إني إنما اعتقدت والتزمت هذا، أو يكون المعنى: إنما أقول وأعتقد هذا. والأشبه أن هذه الزيادة ليست من كلام عبد العزيز، فإنها لا تناسب ما ذكره من مناظرته المستقيمة، ولم يتقدم من عبد العزيز ذكر هذا الكلام ولا ما يدل عليه.

بخلاف قوله: "إنما الفعل صفة لله، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع" فإن هذا كلام حسن صحيح، وهو لم يكن قد قاله، ولهذا لم يقل: إني قلت ذلك، ولكن قال: هذا هو الذي يجب أن يقال، وهو الذي يلزمني أن أقوله، لأني بينت أن المخلوق لا يكون إلا بفعل عن قدرة الله، والفعل قائم بالله، ليس هو مخلوقا منفصلا، وهذا مراده بقوله: "إنه صفة" لم يرد بذلك أن الفعل المعين لازم لذات الله تعالى، لأنه قد قال: "والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع".

فحصل بذلك مقصود عبد العزيز من أن هناك فعلا أحدث الله به المخلوقات عن قدرته ؛ فأقام الحجة على أنه يقوم بالله تعالى أمر غير المخلوقات عن القدرة، واعترف له المريسي بالقدرة. [ ص: 274 ]

فقد ثبت على كل تقدير أن قبل المخلوق شيئا خارجا عن المخلوق، سواء كان هو القدرة وحدها أو كان مع ذلك الفعل والقول والإرادة، وما كان متقدما قبل المخلوق فليس هو من المخلوق ؛ فبطل قول المريسي: إن ما لا يسمى بالله فهو مخلوق ؛ فإن هذه الأمور يقال: "إنها غير الله" وإذا قلنا: "الله الخالق وما سواه مخلوق" فقد دخل في مسمى اسمه صفاته، فإنها داخلة في مسمى اسمه.

ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد أشرك" لم يكن الحلف بعزة الله ونحوه حلفا بغير الله.

ولما حدثت الجهمية واعتقدوا أن القرآن خارج عن مسمى اسم الله تعالى، قال من قال من السلف: "الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق"، فاستثنوا القرآن مما سواه، لما أدخله من أدخله فيما سواه، ولفظ "ما سواه" هو كلفظ "الغير" وقد قلنا: [ ص: 275 ] إن القرآن وسائر الصفات لا يطلق عليه أنه هو، ولا يطلق عليه أنه غيره، فكذلك لا يطلق عليه أنه مما سواه، ولا أنه ليس مما سواه، لكن مع القرينة قد يدخل في هذا تارة وفي هذا تارة.

فلما كان بعض الناس قد يفهم أن القرآن هو مما سواه قال من قال من السلف "ما سواه مخلوق"، إلا القرآن، فإنه كلام الله غير مخلوق: منه بدأ، وإليه يعود" ومن لم يفهم دخول الكلام في لفظ "سواه" لم يحتج إلى هذا الاستثناء، بل قال: "الله الخالق وما سواه مخلوق.

والقرآن كلام الله غير مخلوق" لا يقول: "إلا القرآن" أي القرآن هو كلامه، وكلامه وفعله وعمله وسائر ما يقوم بذاته لا يكون مخلوقا، وإنما المخلوق ما كان مباينا له، ولهذا قال السلف والأئمة، كأحمد وغيره: "القرآن كلام الله ليس ببائن منه" وقالوا: "كلام الله من الله".

وقال أحمد بن حنبل لرجل سأله فقال له: "ألست مخلوقا؟ فقال: بلى، فقال: أوليس كلامك منك؟ قال: بلى، قال: والله ليس بمخلوق، وكلامه منه" ومراده أن المخلوق: إذا كان كلامه صفة [ ص: 276 ] له هو داخل في مسمى اسمه، وهو قائم به، فالخالق أولى أن يكون كلامه صفة له داخلة في مسمى اسمه، وهو قائم به ؛ لأن الكلام صفة كمال، وعدمه صفة نقص، فالمتكلم أكمل ممن لا يتكلم. والخالق أحق بكل كمال من غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية