الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر إسلام سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير على يدي مصعب بن عمير

قال ابن إسحاق : وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ؛ أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر فدخل حائطا من حوائط بني ظفر ، فجلسا فيه ، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما ، وكلاهما مشرك على دين قومه ، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ ، لأسيد بن حضير : لا أبا لك ، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا ، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك ، هو ابن خالتي ، ولا أجد عليه مقدما ، فأخذ أسيد بن حضير حربته ، ثم أقبل إليهما ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه ، قد جاءك ، فاصدق الله فيه . ثم قال مصعب : إن يجلس هذا أكلمه . قال : فوقف عليهما متشمتا ، فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة . فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره . قال : أنصفت . ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن . فقالا فيما يذكر عنهما : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم . ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل فتطهر ، وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي . فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ، ثم قام فركع ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يختلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، وهو سعد بن معاذ . ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم ، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا ، قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين ، فوالله ما رأيت بهما بأسا ، وقد نهيتهما فقالا : نفعل ما أحببت ، وقد حدثت [ ص: 269 ] أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك . فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة ، فأخذ الحربة من يده وقال : والله ما أراك أغنيت عنا شيئا . ثم خرج إليهما ، فلما رآهما سعد مطمئنين ، عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما . فوقف عليهما متشتما ، ثم قال لأسعد بن زرارة : يا أبا أمامة ، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا . أتغشانا في دارينا بما نكره ، وقد قال أسعد بن زرارة ، لمصعب بن عمير : أي مصعب ، جاءك والله سيد من وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان . قال : فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره . قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة وجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن . قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم . ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين . قالا : تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تركع ركعتين . قال فقام فاغتسل وطهر ثوبيه ثم شهد شهادة الحق ، ثم ركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم . فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة ، قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله . قال : فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة .

قال أبو عمر : حاشا الأصيرم ، وهو عمرو بن ثابت بن وقش ، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة .

رجع إلى ابن إسحاق : قال ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ووائل وواقف ، وتلك أوس الله ، وهم [ ص: 270 ] من الأوس بن حارثة .

قال أبو عمر : وكانوا سكانا في عوالي المدينة ، فأسلم منهم قوم ، وكان سيدهم أبو قيس صيفي بن الأسلب ، فتأخر إسلامه وإسلام سائر قومه إلى أن مضت بدر وأحد والخندق ثم أسلموا كلهم .

ورأيت في "التاريخ الأوسط" للبخاري أن أهل مكة سمعوا هاتفا يهتف قبل إسلام سعد بن معاذ :

فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالف

فحسبوا أنه يريد القبيلتين سعد هذيم من قضاعة ، وسعد بن زيد مناة بن تميم ، حتى سمعوه يقول :

فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا     ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا     على الله في الفردوس منية عارف

في أبيات ، وقد روينا ذلك أطول من هذا .

[ ص: 271 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية